التنمية الاقتصادية المستدامة، الصحافة الاقتصادية، الإعلام الاقتصادي، كلمات مفتاحية للحديث حول ماهية هذا الإعلام ونشأته التاريخية وأهميته وكيفية التعرف على المحددات الأساسية لصناعة المحتوى الإعلامي الاقتصادي.

يطرح الباحث أحمد حسان عرنوس، ماجستير في العلاقات الدولية، كلية العلوم السياسية بجامعة دمشق، في بحثه الجديد دور الإعلام الاقتصادي السوري في مرحلة ما بعد الأزمة؛ حيث يعالج واقع الإعلام الاقتصادي السوري ويعرض التحديات العامة والخاصة، وصولاً إلى بعض النتائج التي تخدم تطوير هذا الإعلام في مرحلة التنمية الاقتصادية المستدامة، وخاصةً خلال فترة ما بعد الأزمة والحرب على سورية.

إشكالية الواقع

انطلق الباحث في معالجة موضوعه من جملة من التساؤلات حول ماهية الإعلام الاقتصادي، ودوره في تحقيق فائدة إيجابية بأقصر الطرق وبأقل تكلفة. ومحددات صناعة المحتوى الإعلامي الاقتصادي، وواقع هذا الإعلام في مرحلة ما بعد الأزمة، من خلال عدة فرضيات تتعلق بوجود قطاع إعلامي متعدد ومتنوع، يؤدي إلى تحقيق وظيفة اقتصادية خاصةً في مجال انخفاض مستويات الفساد بكافة أنواعه، والعكس صحيح أيضاً. وأن وجود إعلام اقتصادي حقيقي ومؤثر يحتاج بالضرورة إلى مشاركة عملية من قبل جميع النخب الرسمية وغير الرسمية في المجتمع المحلي السوري، بما يخدم عملية صنع القرار الإعلامي والاقتصادي في مرحلة ما بعد الأزمة. وأهمية إعطاء بُعد استراتيجي لهذا الإعلام الوطني حتى لا يقع في ظل حرب المعلومات والسماح للإعلام الاقتصادي المعادي للدولة السورية بالتأثير سلباً على المواطنين، من مستهلكين ومنتجين ومستثمرين.

فرص وتحديات

ليس جديداً

لا يعتبر الإعلام الاقتصادي علماً جديداً، فقد ظهر مبكراً في أوروبا وبريطانيا بفضل الممارسات التجارية التي كانت سائدة آنذاك في أسواق لندن منذ عام 1700، حيث بدأت الصحف البريطانية بنشر إعلانات تجارية معظمها متعلقة بالعمل والعمال وحركة الأسواق. وفي عام 1793 ظهرت صحيفة "هامدين" وهي أول صحيفة اقتصادية أمريكية. وأما في عام 1851 تأسست وكالة "رويترز" عن طريق رجل الأعمال الألماني "جوليوس رويتر"، وكانت مهمتها الأساسية هي جمع المعلومات المتخصصة للمحترفين في مجال خدمات المال والأسواق العالمية المختلفة. وبعد نمو وتطور وسائل الإعلام الرقمية وغير الرقمية خلال السنوات 2000-2022، برزت تحولات عديدة في طبيعة دور الإعلام الاقتصادي، متأثرة بالانتقال السريع إلى الوسائط الرقمية الحديثة، والنمو السريع للإنترنت، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي والاعتماد عليها بشكل كبير كمصدر للإعلام بكافة أنواعه، وتقليل الاعتماد على وسائل الإعلام الجماهيرية مثل الإذاعة والصحف والتلفزيون, واهتمام الدراسات البحثية الجديدة بدور الهاتف المحمول وتطبيقاته فيما يتعلق بالتحليل الاقتصادي، ودراسة المفاهيم الاقتصادية مثل تخصيص الوقت والمال الذي يتم إنفاقه على استخدام الهاتف المحمول والإنترنت.

على الرغم مما سبق يبين الباحث أحمد عرنوس أن الإعلام الاقتصادي لم يتراجع دوره في ظل الثورة التكنولوجية الرقمية الحالية والمستقبلية، فهو يتمتع بدور حيوي واستراتيجي في العديد من المواضيع وخاصة في تحريك وتنشيط عجلة النمو الاقتصادي والإعلان والإعلام عن التحولات الكبرى التي تحدث في عالم الاقتصاد والأعمال والمال، وفي توفير المعلومات للعامة والمتخصصين حول الأوضاع الاقتصادية المحلية والدولية، والتعريف بالحركة الاقتصادية التي تجري في الدول الأخرى.

ما بعد الأزمة

في حديثه حول واقع الإعلام الاقتصادي السوري في مرحلة ما بعد الأزمة يبين الباحث أنه في السنوات العشر الأولى من بداية الألفية 2000-2010، توسع الإعلام الاقتصادي الخاص في سورية، متزامناً مع سياسة تحرير الاقتصاد التي اتبعتها الدولة السورية في تلك الفترة، وكانت من أهم تلك المطبوعات الإعلامية الاقتصادية: تجارة وأعمال، المال، المجتمع الاقتصادي، مصارف وتأمين، قضايا... وغيرها، ولكن معظم تلك المطبوعات قد انخفض عددها وتقلصت من 21 إلى 5 فقط، وفتحت صحيفة "الاقتصادية" باب المطبوعات الاقتصادية المتخصصة في سورية عام 2001، لتكون أول صحيفة أسبوعية اقتصادية، وخرجت "الاقتصادية" إلى السوريين في تلك الفترة بثمانية آلاف نسخة وذلك لسدّ فراغ الإعلام الاقتصادي، ومنذ تلك الانطلاقة ساهم الإعلام الاقتصادي الخاص في سورية باستقطاب الكثير من الأقلام ذات التوجهات والميول الاقتصادية المختلفة، سواءً من الإعلاميين المتخصصين في الشأن الاقتصادي، أو من الكتاب والباحثين الاقتصاديين الذين طرحوا بجرأة وجدية قضايا الاقتصاد الوطني. والنتيجة الأولية هي أن ذلك الإعلام استطاع أن يقدم خطاباً إعلامياً اقتصادياً مغايراً ومختلفاً عن مرحلة التسعينات والثمانينيات، ورصد الكثير من مشكلات الاقتصاد وسلط عليها الضوء. ولكن من جانب آخر بدأت تلك الحماسة بالضمور فيما بعد، وسادت المحتويات الإعلامية التشابه والتقارب. ولهذا كان لا بد له من مراجعة نقدية، وإعادة فحص وتقييم لبنيته، وللدور الوظيفي الذي يقوم به. وقد كان الإعلام الاقتصادي بحاجة ماسة أيضاً إلى القدرة على تحليل "الرقم الاقتصادي"، وقراءة دلالاته الاجتماعية والسياسية، فعندما يعلن الخطاب الاقتصادي الرسمي بأن الاستثمار المنفذ وصل في سورية إلى مليار دولار مثلاً خلال فترة زمنية معينة، وأن معدل البطالة خلال الفترة ذاتها وصل إلى 10% من قوة العمل، عندها يجب على الإعلام الاقتصادي بأن يربط ما بين هذين الرقمين، باستخدام مفاهيم "كلفة فرصة العمل" و"عدد داخلي سوق العمل"، لمعرفة كمية الاستثمارات التي أدت إلى توظيف "داخلين جدد" إلى سوق العمل، ومن ثم مقارنتها مع معدلات البطالة والوصول إلى حقيقة علمية معينة حول دقة وتناسق تلك الأرقام لمعرفة إن كان رقم الاستثمار صحيحاً أم لا، ولمعرفة أيضاً إن كان معدل البطالة صحيحاً أم لا.

مع بداية الحرب الدائرة على سورية والمستمرة منذ عام 2011، تراجع جداً مستوى الإعلام الاقتصادي المحلي، وخرجت عدة صحف اقتصادية عن العمل، وذلك بسبب ظروف عديدة ومتنوعة، والتي أدت إلى تركيز الإعلام على الجوانب السياسية والعسكرية. ومن الجدير ذكره بأن صحيفة "الاقتصادية" قد صدر آخر عدد لها في عام 2020، وبعدها لم تنشر الصحيفة أي عدد جديد على موقعها الرسمي الإلكتروني. وقد كان آخر اجتماع نفذته "غرفة تجارة دمشق" في 27/11/2019 بخصوص معالجة "دور الإعلام في دعم الاقتصاد الوطني"، حيث أدت مخرجات هذا الاجتماع إلى التركيز على أهمية الإعلام في تسليط الضوء على الفعاليات الاقتصادية ووجهات النظر في الموضوعات المطروحة وتفسيرها، وضرورة اهتمام الإعلام بجمهوره لرفع مستوى وعي حول الأحداث التي تدور حوله، وأن يكون الإعلام مؤثراً وخاصةً في الجانب الاقتصادي والمعيشي ومكافحة الفساد وتهيئة الرأي العام للقرارات والسياسات الاقتصادية وتشجيع السلوكيات الاقتصادية الصحيحة، والتأكيد على أن هدف الخبر الاقتصادي هو تبديد حالة القلق، وبناء الثقة بالاقتصاد الوطني لدى كل المواطنين.

تحديات مربكة

يبين الباحث أن واقع الإعلام الاقتصادي السوري في مرحلة ما بعد الأزمة، يواجه تحديات متعددة ومتنوعة، حيث مازال هذا القطاع الإعلامي ذا مستوى متدني، ومن هذه التحديات: غياب الصحفي المتخصص في الإعلام الاقتصادي وفي إدارة الأزمات الاقتصادية، وعدم وجود مصادر موثوقة للصحفي الاقتصادي يمكن له بأن يلجأ إليها عند وقوع أزمة اقتصادية معينة، وعدم وجود تنسيق بين الوزارات الحكومية عند التعاطي الإعلامي الاقتصادي مع أزمة معينة، نوعية وطبيعة السياسة الإعلامية الاقتصادية المحددة وغير المرنة.

وأما بالنسبة إلى التحديات الخاصة فيتمثل بعضها بالخسائر الكبيرة التي تعرض لها الاقتصاد السوري خلال فترة الحرب، والتي أدت إلى تراجع تمويل وسائل الإعلام سواء كانت عامة أو خاصة، الأمر الذي انعكس على تطوير تلك المؤسسات الإعلامية، هجرة العقول والشباب والكوادر الإدارية والفنية والمتخصصة في المجال الإعلامي والاقتصادي، وهجرة الاقتصاديين السوريين إلى دول الخليج أو مصر أو الأردن.. وغيرها، عدم وجود متحدث رسمي للحكومة السورية معني بقضايا الإعلام الاقتصادي، ويشرح طبيعة أي أزمة اقتصادية تمر بها البلاد، وجود إعلام خارجي معادٍ يمتلك كافة الموارد المالية والتمويلية والفنية والتقنية المتطورة، يقوم بنشر أخبار أو حقائق مزيفة.

فرص وبدائل

على الرغم من جملة التحديات السابقة والتي تحيط بالإعلام الاقتصادي السوري، إلا أنه هناك فرصاً وبدائل وحلولاً لتطوير واقع هذا الإعلام، ويتوقف هذا الأمر على المقترحات والتوصيات التي يجب أن يقوم عليها الخطاب الإعلامي الاقتصادي في سورية: كأن تقوم وسائل الإعلام العامة والخاصة بنشر الحقائق والمعلومات المتعلقة بواقع الاقتصاد السوري، بناءً على التحديات الحالية والمستقبلية؛ وطرح مشاكل الفساد الإداري والمالي بشكل شفاف ومصداقية تؤدي إلى قبول واسع لدى الرأي العام السوري؛ وعقد ورشات وجلسات حوارية ونقاشات بين مختلف المتخصصين في الشأن الاقتصادي والإعلامي، مع الصحفيين والإعلاميين العاملين في مجال الإعلام الاقتصادي، وذلك لزيادة وعي وتثقيف الوسط الإعلامي في المجال الاقتصادي. ويمكن أيضاً أن تتولى وزارة الإعلام وضع دليل استرشادي يصدر سنوياً، ويكون متاحاً للصحفيين العاملين في مجال الإعلام الاقتصادي؛ مواجهة الإعلام المعادي للدولة وتفنيد المعلومات المزيفة، أو الإشاعات الموجهة؛ وتوقيع اتفاقيات تعاون مع الدول الصديقة في مجال تعزيز العلاقات الإعلامية والاقتصادية؛ إنشاء وتأسيس مركز أبحاث ودراسات إعلامي اقتصادي يضم كافة المتخصصين في المجال الإعلامي والاقتصادي.