تتركز أحداث رواية "بيت الخلد" حول شخصية رئيسية هي أكثم الحلبي الذي هجر قريته مضطراً بسبب معاناته ووحدته فيها، فكانت معاناته في المدينة لا تقل قسوة عنها أيضاً. إلا أنه وجد عدة أشخاص ساعدوه وقدموا له العون، فعمل وتزوج وشارك في العديد من الأحزاب السياسية، وتعرض للسجن أكثر من مرة، لينتهي به الأمر بالعودة إلى قريته بعد أن أحرق زوجته ونمر الكلسي اللذين كانا معاً في منزله –القبو.

ليست الرواية عرضاً حكائياً يهدف إلى إمتاع القارئ؛ بل هي ليست كذلك إن اكتفت بالحكاية وحدها، ولذلك فإننا لم نقدم أحداث الرواية، وما فعلناه هو رصد خط السير العام للشخصية الرئيسية في النص، ونريد من ذلك أن نصل إلى أن الرواية كتابة واعية وعميقة تتطلب شروطاً في الدقة والمعرفة، وهذا ما يحاوله الراحل وليد إخلاصي في كتاباته.

يعتني الروائي وليد إخلاصي بالتشكيل الفكري والفني لشخصياته، فيحاول أن يشبعها بالتقنيات السردية لتشكل ضمن سياق النص الروائي انسجاماً كلياً يتناسب ومجمل عناصر الرواية، المكانية والزمانية والأحداث والشخصيات جميعاً، وهو ما بدا واضحاً في روايته "بيت الخلد"، بدءاً من لحظة التكوين الأولى، إذ يهيمن العرض السيَري على الشخصية الرئيسية أكثم الحلبي بمواصفاته الخارجية والداخلية في آن، فهو لا يخرج عن طبائعه الشخصية إن لم يساعده أحد على ذلك. فما تعرض له من ظلم في طفولته القروية نفره من أجواء القرية نحو المدينة. أما معاناته الشخصية في المدينة فقد صحبتها أيد ساعدته على الخروج من تقوقعه الذاتي. وأما الحدث الأكبر في هذا الإطار فكان عندما وقفت بجانبه صديقته سراب، قبل لحظات من انكفائه الذاتي وغيابه عن الوجود؛ وهو ما حُول إلى حدث رمزي مازجته العديد من الأحداث الخارجة عنه ليكون المكان الذي غاب فيه رمزاً يحتمل تفسيرات متعددة بحسب النهاية التي وضعها الروائي.

يهتم الروائي بالتكوينات النصية لروايته، ولا يُغفل المحتوى الفكري والمضموني فيها، وهو ما يعكس ثقافة الروائي الذي لا يكتفي بالعرض والسرد وحدهما، بل لا بد من وجود مخزون معرفي لدى الروائي، ينعكس في العديد من التبديات الفنية في النص، وبما أن العمل الذي أسبغه الروائي على روايته هذه هو الصحافة، فإنه حاول أن يهتم بالتكوين المعرفي لشخصية أكثم الحلبي، فهو شخصية مثقفة وقارئة، وهو الذي اخترع مصطلح "البناء الأخلاقي" كما يذكر الروائي، وبسبب هذا المصطلح كان أي تحديد لملمح من ملامح الشخصية الروائية مرتبطاً به، حيث نجد حرصاً من الروائي إخلاصي في ذلك، فالبطل يحب الأطفال، ولكنه لا يلوم زوجته أو يُضايقها بسبب عقمها المثبَت طبياً، وهو لا يتأخر في دفع الإيجار رغم ضيق حالته المادية، ولم يُسمع عنه أي سوء في التعامل مع جيرانه أو أصدقائه، وتمتع بكثير من المواقف التي تدل على نبل في الشخصية، وهذا ما أراد له الروائي أن يكون انعكاساً للمستوى المعرفي الذي وضعه فيه.

ويبدو من ذلك أيضاً إعجابه بمدرسة الفلسفة، وقد كان فشل في تثقيف زوجته أو تعليمها رغم إلحاحه، لتحل مدرسة الفلسفة وتكون محط إعجابه بها وبثقافتها، ويتضح ميل الصحفي نحوها إعجاباً، إلا أن ثمة عوائق تجعل اللقاء بينهما مستحيلاً، وهنا يظهر الاسم الذي أسبغه الروائي على فتاة الفلسفة وهو "سراب"، ليلائم الوضع التقابلي بين الشخصيتين المرسومتين من قبل الروائي، وليكون ذلك تسويغاً من قبل المؤلف على ما ستنتهي إليه حال البطل أكثم الحلبي.

ومن التكوينات في بنية الشخصية أيضاً حرص الروائي على اللغة الروائية لدى أكثم الحلبي، فمن ذلك عندما يقول أكثم: "يجب علينا أن نبحث عن صيغ جديدة نتقبل بها الحقيقة القائمة، فنقابل وحشية التعسف المسلط على رقابنا بنوع من الحكمة التي تقودنا إلى التغيير". أما الجانب المعرفي الأكثر وضوحاً فيبدو في مكتبة البطل التي يقدم لها الروائي وصفاً بأنها تجمع عناوين كتب تتصل بالحكمة الهندية والفلسفة الصينية، وأخرى لها علاقة بالماركسية والتصوف، وجمهورية أفلاطون، وكتب لسارتر ورسالة الغفران للمعري ومواقف النفري، ودون كيشوت والقرامطة، والحلاج ولينين، ليدرك القارئ المستوى المعرفي المتقدم والكلي – الشامل لدى البطل الروائي، وحرص إخلاصي على صياغة تلك التكوينات المعرفية المعمقة في بناء شخصيته الروائية.

لذلك يبدو التركيز على البعد المعرفي لدى الروائي من الجوانب مقصودة الاهتمام من قبل الروائي، فهذا الزخم المعرفي الكبير والواسع، هو الذي أضفى على شخصية أكثم ذلك الهدوء وتلك السكينة، في مجمل الأحداث الصاخبة التي تعرض لها، فلم تكسبه الأزمات التي مر بها إلا هدوءاً وسكينة، إلا عندما اضطرب مصطلحه الذي اخترعه "البناء الأخلاقي"، ووقع بنفسه على ذلك الاضطراب، عندما وجد أن زوجته انطلقت نحو معذبه وجلاده الذي قاسى منه أكثم الحلبي العذاب والقسوة، ليجد أن زوجته "قمر" التي ضحى لأجلها والتي احتمل قسوتها عليه؛ قد اختارت جلاده "نمر الكلسي" ليكون خليلاً لها، فما كان منه إلا أن حطم جدار بنائه الأخلاقي هذا، وأحرق بنفسه جثتين وجدهما متعانقتين في بيته هما: زوجته "قمر" وجلاده "نمر الكلسي".

وبهذا الشكل تتفجر الشخصية الروائية وتتحول إلى رمز يختزن من الدلائل والرموز العديد من المعاني، فلم تصل إلى لحظة الانفجار تلك إلا بعد أن حاول الروائي إخلاصي أن يحيطها بالعديد من المسوغات النصية-الروائية التي تُسوغ فعل الانفجار لديها، وهو ما يجعلنا نرى في الرواية اهتماماً دقيقاً بالبناء النفسي للشخصية، أكثر من الاهتمام بالفعل الحكائي في النص، فنحن سندرك من خلال السرد؛ وفي منتصف الرواية تقريباً شخصية القاتل الحقيقي، ولكن فعل القراءة سيستمر لأن شخصية البطل في الرواية هي التي تلفت انتباه القارئ أكثر من فعل الحدث أو الأحداث فيها، فهي شخصية تلفت القارئ نحو الجوانب النفسية والذاتية، ونحو الأحداث التي أثرت بالنهاية المأساوية لتلك الشخصية التي لم تستطع أن تغير في واقعها شيئاً، لأن ثمة واقعاً محيطاً يفرض حقائقه ومعطياته على ظروف الشخصية التي تفقد أي فعل إيجابي تغييري أو ثوري فيها. فكانت النهاية السالبة مصيراً ملائماً لها، مثلما قرر الروائي إخلاصي أن تكون.

إن الروائي وليد إخلاصي يهتم بدقة التحديد الروائي لشخصياته، ويحاول أن يجعل من بناء الشخصية لديه منسجماً مع مجمل ما يحيط بها من أحداث، فيأتي الارتباط لديه بين الشخصية والمكان الذي تنتمي إليه، أو الزمن الذي وضعها فيه، ليقول للقارئ إن البناء الروائي يتطلب قدرة إبداعية وفنية تكون قادرة على تقديم أنموذج حقيقي وإن لم يكن كذلك.

----

الكتاب: بيت الخلد

الكاتب: وليد إخلاصي

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2022