يشكل التراث الشعبي بفروعه المختلفة، وحدة ثقافية متكاملة، شكّلها الإنسان عبر تاريخه الطويل بتفكيره الخلاق وإبداعه وملاحظاته المتأنية، وتأملاته، وتجاربه، وخبراته المتراكمة جيلاً بعد جيل.

بدأ الكاتب محمود مفلح البكر كتابه "مدخل البحث الميداني في التراث الشعبي" بنشأة علم التراث الشعبي، ويقول: يعتبر مخطوط "جرمانيا" الأقدم لمؤلفه الروماني القديم "تاسيوس" الذي ظل مهملاً دهراً حتى نفض عنه الغبار في القرن الخامس عشر في ألمانيا، ثم أعيدت طباعته عدة مرات، ويتحدث عن الجرمان الذين فضلهم الكاتب عن الرومان، ويذكر عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، وأشاد بفضيلة الحياة الشعبية البسيطة. ونبه هذا الكتاب الألمان إلى أهمية التراث الشعبي وعلاقته بالتاريخ القديم وأجناس البشر. وسرعان ما عم الاهتمام بالتراث الشعبي في أوروبا كلها، وانبرى كثيرون لجمع الأغاني والحكايات والأمثال والمعارف الشعبية ودراسة العادات والمعتقدات الشعبية التي كان كثير منها على صلة غير منقطعة بأفكار أسطورية سابقة على المسيحية. وتحول الأمر من فردي إلى اهتمام شعبي واسع النطاق. فالتراث الشعبي هو الصورة الشخصية الحقيقية غير المزيفة، وراح كل شعب يتلمس عن تراثه سيرته التاريخية، ويحاول معرفة ما كان عليه أسلافه القدامى في العصور السابقة على المسيحية من أساليب عيش، وعادات، ومعتقدات، وطقوس وثنية، وما أبدعوا من فنون وملابس وآداب، وما صنعوا من أدوات كالأسلحة والإبر وأدوات النسيج.

بداية المرحلة العربية

عمل الأتراك طوال فترة حكمهم، على تحييد اللغة العربية، وتتريك المؤسسات والدوائر، والدواوين الحكومية، ولم يعد هناك من علاقة باللغة العربية إلا بالخط العربي، يضاف إلى ذلك تراجع الدارسين، وتزايد عدد السكان. ولأن الإبداع الفني والأدبي ليس وقفاً على لغة، فقد وجد المبدعون من شعراء شعبيين، وحكواتيين في اللهجة العامية أداة للتعبير، سهلة، وواسعة التداول، ورغم اختلاف اللهجات من البدوية الصحراوية المغرقة في بدويتها إلى القروية الجبلية النائية مروراً بالمدنية، فقد كان السكان يتفاهمون دون صعوبة تذكر، ويتذوقون فنون بعضهم بعضاً، ويرددون الأغاني والأشعار الذائعة في غالبية المناطق، كما تنقل الموال والعتابا بين حارات المدن والبلدات وربوع الأرياف والبوادي، خاصة المجاورة للمدن.

لعب التراث الشعبي دوراً فعالاً في الانتفاضات والثورات التي قامت ضد الأتراك، وبعدهم الاستعمار الغربي، وصارت تقاليد الفروسية والضيافة والجوار والرقص الجماعي والغناء والأشعار والموسيقا الشعبية كلها أسلحة شديدة التأثير في نفوس الناس، مما ألهب الحماسة الشعبية، ودفع الكثيرين إلى حمل السلاح دفاعاً عن الكرامة الوطنية. وكان التراث الشعبي عامة والأدب الشعبي خاصة، شديد الحضور في التعبير عن أفراح الشعب بعد جلاء المستعمر.

في سورية

كانت الجامعات السورية سباقة في هذا المجال، برعاية بعض الرسائل الجامعية مثل رسالة "الشعر البدوي المعاصر من خلال دراسة شعر الرولة" للدارس أحمد حسن الخطيب في كلية الآداب، وصدر عن وزارة الثقافة عام 1961م؛ كتاب"تقاليد الزواج في الإقليم الشمالي". وقد عزفت الجامعات السورية لاحقاً عن مثل هذه الدراسات الميدانية، وبقيت وزارة الثقافة وحدها تستقبل بعض المؤلفات في التراث الشعبي وتطبعها من دون أن تكون هناك مرجعية علمية متخصصة مؤهلة للحكم عليها. وتبعثرت جهود الكتّاب والمهتمين بالتراث الشعبي، وتباينت مستويات أعمالهم، وظلت محصورة في أماكن محددة ومبعثرة ومدفوعة بحب هذا التراث وهواية جمعه، وذلك لغياب الجهة العلمية الراعية.

ساهمت دراسات التراث الشعبي في الغرب في بناء البلدان الأوروبية، وإبراز هويتها، وتأجيج المشاعر الوطنية، ودفع عجلة نهضتها، لكنها في المقابل استُغلّت في خدمة المشاريع الاستعمارية، وساهمت في توجيه سلوك الشعوب، الوجهة التي تخدم مصالح المستعمر عبر إثارة النعرات وترسيخ قيم التخلّف والاتّكالية.

ينقسم التراث الشعبي إلى تراث شعبي مادي وتراث شعبي غير مادي. فالتراث الشعبي المادي هو الخبرات العملية التطبيقية والمنتجات الحرفية والصناعات التراثية وغيرها، أما التراث الشعبي غير المادي فهو المعارف والأفكار والأدب والغناء وغيرها.

إن التراث الشعبي بمجموع أقسامه وفروعه المتشعبة المتداخلة تداخلاً لحموياً، إنما هو وحدة متكاملة تكامل الجسم والروح والعقل وما تشتمل عليه من خبرات وأفكار وتصورات وعواطف وأحلام وطموحات ومهارات، وإن أي فصل لبعض جوانب التراث عن بقيتها سواء مادياً أو أدبياً أو من المعتقدات أو العادات أو الفنون، لا يكون إلا بهدف تسهيل دراسة موضوع معين نظراً لتشعب المواضيع وتداخلها غير المنفصم.

----

الكتاب: مدخل، البحث الميداني في التراث الشعبي

الكاتب: محمود مفلح البكر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2009