يحدث كثيراً أن تنهض علاقة حميمة ومفعمة بالشغف بين قارئ لرواية وإحدى شخصياتها، ويتحول هذا الشغف إلى مساكنة روحية وفكرية مع كائن خيالي من ورق وكلمات وصور تفتح كوى جديدة في عقل وروح من عايشها كما لو كانت معجونة من دم ولحم.

من الطبيعي أن نجد مدمناً على قراءة الأعمال الروائية وقد تورط بعلاقة ما مع شخصية مفعمة بالحيوية والحياة، وتمتلك فلسفة حياتية خاصة تكسر شيئاً من الاعتيادي والمألوف لديه في سياق وبناء فني يفيض بالكثير من الغنى الإنساني والفكري، والأمثلة كثيرة.

الباحثة الفرنسية "لور هيلم" تأخذنا، في دراسة نقدية – تطبيقية، إلى عوالم وآفاق غنية في كتابها "الشخصية في الرواية" الصادر ضمن "المشروع الوطني للترجمة –العلوم الإنسانية" حيث تظلل الكثير من الخطوط التي ترتسم وفقها الشخصية الروائية في عقل الكاتب ومن ثم على الورق.

ولأن الشخصية محرك العمل الروائي والضامنة، في الوقت نفسه، لتماسكه، وعلى الرغم من أنها كائن ورقي مخلوق من كلام، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف نفسر أن كائنات خيالية محصورة في النص الروائي تستطيع أن تلازمنا وترافقنا وحتى تغير مسار حياتنا؟ والمدهش حقاً أننا يمكن أن نتعايش ونتحاور مع تلك الشخصيات أكثر من شخص طبيعي يعيش معنا؟

ومن الطبيعي بعد ذلك أن نمضي إلى التساؤل الأساسي الذي تطرحه الكاتبة "كيف يستطيع الروائي منح شخصياته الخيالية مثل هذا التماسك وهذه الحيوية؟ وكيف نفسر أن قارئاً يمكنه أن يمنح ثقته إلى مثل هذه الكائنات على الورق وهو يعلم أنها كذلك؟

هو طريق فيه من الوعورة قدر غير قليل، لكن الكاتبة تشير إلى أن للشخصية ديناميكية في النص، وهي جعل الفعل يتقدم عبر منحه تماسكاً قوياً. والشخصية تمر بأربع مراحل "تحريك، جدارة، إنجاز، جزاء". وقدرة الشخصية على الفعل تعتمد على الإرادة والقدرة والمعرفة.

وهنا لا بد من القول إن الشخصية ليست فقط الخيط الذي يربط مختلف أحداث الرواية، وإنما هي أيضاً تمتلك تماسكاً وكثافة خاصة. كما أنه لا ينظر إليها من زاوية ما تفعله ولكن بما هي عليه. وإزاء ذلك ينهض السؤال "كيف يبني الروائي بالتدريج شخصية ما لخلق تأثير حياة؟".

هناك عوامل عديدة تقف وراء ذلك بدءاً من اختيار الاسم، ففي كل اسم صوت وفكرة. وهناك مفهوم الأنموذج وهي شخصية تختصر في ذاتها السمات المميزة لكل الشخصيات التي تشبهها، هي شخصية تقدم مجموعة من العناصر المميزة والمستعارة من الأشخاص في الواقع. ولا يمكن نجاهل المستوى النفسي للشخصية وعلاقة ذلك بالقارئ في مستوى ما، وكذلك كلام الشخصيات والخطاب الذي يمكن أن يصدر عنها، وتالياً كيفية بناء صلة حميمة مع القارئ.

وهكذا فالشخصية في الرواية "خرافة أدبية" تتجمع عندها معلومات كثيرة تسهم في تعريفها وإدراجها بصورة مستمرة في ذاكرة القارئ.

وتتطرق الباحثة إلى المشهد، باعتباره مقطعاً يتطابق فيه زمن السرد بزمن القصة المحكية، والمشهد الروائي يتغذى على المشهد المسرحي لتأخذ الشخصيات حياة بسهولة في عين القارئ.

ويأخذ الزمن موقعه الخاص في بناء الزمن؛ حيث تشير الكاتبة إلى علاقة الشخصية بتجربة الزمن، والشخصية في زمن الأزمة، وبؤرة إدراك جريان الزمن من حيث الفاعلية وزمن الساعات وبعض اللحظات، وذاكرة الشخصية الروائية. لتؤكد أن الشخصية "تأخذ تماسكها من خلال إدراجها ضمن زمن روائي يمكن أن يمتد إلى عقود أو ساعات عديدة، عبر تبني قياس وإيقاع لهما تأثير كبير في بناء هذا الكائن الخيالي".

وتؤكد الباحثة على دور ومكانة القارئ في التفاعل مع الشخصية – الفاعل في النص، ذلك أن الروائي "الذي يبرمج بطرائق متعددة انخراط القارئ في النص يخلق الشخصية – الفاعل المعرضة لتبدلات لامتناهية" وهكذا "فإننا مدعوون إلى إكمال تجربة الغيرية الغنية جداً من خلالها" وبذلك تكون قراءة الرواية "تعليماً للآخر".

يتناول الجانب التطبيقي في هذه الدراسة عدداً من الأعمال الروائية التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على الرغم من أن عدداً من الروائيين وضع "المكانة المركزية للشخصية ومشروعها موضع تساؤل، فأصبحت هدفاً لانتقادات متعددة، حينما حرم هؤلاء الكتاب الشخصية من خصوصياتها ومن امتيازاتها، فإنهم قلبوا الجنس الروائي في العمق"، ولكن في الوقت نفسه "سمحت أزمة الشخصية هذه بالإضاءة على حيويتها وسمتها الضرورية".

----

الكتاب: الشخصية في الرواية

الكاتبة: لور هيلم

ترجمة: الدكتور غسان بديع السيد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2020