تعبر حكايات ألف ليلة وليلة عن مخزون الذاكرة المعرفية الجمعية للمجموع الإنساني عبر رحلته التاريخية والحضارية، وهذه الذاكرة التي عايشت تاريخ المجتمعات، وعاداتها وأحوالها، والتحولات الفكرية والسياسية لهذه المجتمعات في تطورها الحضاري.

ذكر الكاتب د. محمد عبد الرحمن يونس في كتابه "المدينة في ألف ليلة وليلة" المدن التي تناولتها هذه الحكايات، فمن المدن العربية صنعاء، الشام (دمشق)، حلب، القدس، عكا، غزة، عسقلان، القاهرة، الإسكندرية وغيرها، ومن البلدان الأوروبية المسماة (بلاد الفرنجة) النمسا، القسطنطينية، البندقية، بلاد السند، إضافة إلى الصين وبلاد العجم (الفرس).

بدأ الكاتب الفصل الأول من هذا الكتاب بالحديث عن مدينة خراسان، وبعد لمحة تاريخية عنها، ينتقل إلى بيان أهميتها باعتبارها أولى حلقات السرد، وأول الفضاءات المكانية التي تتحرك فيها الشخوص، نظراً لأهميتها العلمية والمعرفية عبر التاريخ. فقد رأى رواة ألف ليلة وليلة، أن الملوك مهما كانوا عظماء وأقوياء بجيوشهم الجرارة، فإن العظمة لا تكتمل إلا بالعلاقة مع خراسان المركزية، التي نقلوها معهم إلى أبعد المدن الأسطورية والتخيلية، وتخيلوا أن سكان أبعد مدينة وجدت هي خراسان، وقد سمعوا عن عظمة ملوكها وتعميرهم الأرض وسيادتهم عليها. وما أعطى خراسان هذه الأهمية أنها البلاد التي تشمل مدينة الملك شهريار والملكة شهرزاد، وكونها مركزاً تنتقل منه الوحدات السردية إلى أصقاع العالم، ثم تعود إليه. فخيوط القصة تبتدئ من قصر شهريار، ثم تبتعد بعيداً، لتتشابك، ثم تفك في قصر شهريار، عبر المساحة السردية التي تروى فيها الحكاية. فكثير من سمات ملوك ألف ليلة وليلة وأمرائها وسلاطينها ونزعاتهم صوب القتل، متجسدة في حياة شهريار وسلوكه اليومي.

المدينة الثانية في كتاب ألف ليلة وليلة هي بغداد، التي واصفها بـ (أم الدنيا وسيدة البلاد)، فهي أهم فضاء مكاني مركزي أولاها الرواة أهمية خاصة، ويتوقف السرد في فضاءاتها، وأزقتها وقصورها طويلاً، ليعرج على بنيات الزمان والمكان، وتحديداً إبان الخلافة العباسية. فمدينة بغداد في ألف ليلة وليلة هي جنة جميلة من جنان الدنيا، ببساتينها وحدائقها الجميلة، وبغداد لا تضاهيها مدينة في سائر البلاد، ففيها لذة العيش ورفاهيته، وفيها الناس الطيبون وكل ما فيها أحسن من غيرها، وكل من يأتي إليها يجد مسكناً طيباً ولن يفكر بالرجوع إلى بلده. هي مدينة النعم والخيرات ورجالها من أهل النعم والأموال الكثيرة، وفضاؤها أليف محبب للنفس، وقادرة على إزالة الهموم وتبديد الأرق والقلق، وهي مركز حضاري فاعل في تنشيط التجارة وازدهارها في الدولة العباسية، ومقصد للفقراء والأغنياء طلباً لمزيد من الثراء. ومن الوجوه السلبية لبغداد في حكايات ألف ليلة وليلة، انتشار المعاصي والفجور وارتكاب المنكر بكل أشكاله، وتورط نساء الليالي ورجالها بطبقاتهم الاجتماعية على حد سواء في ارتكاب المعاصي والفجور.

المدينة الثالثة في كتاب ألف ليلة وليلة هي البصرة التي تشكل أهمية كبيرة، لأنها مفتاح مدن العراق صوب العالم، كونها ميناء مهماً على الخليج العربي، إذ يتم من خلاله ارتحال السرد الحكائي صوب البلاد الأخرى، وبالتالي يكون هذا الميناء مفتاحاً مهماً لتشكل الحكايات الجديدة ثم تشابكها وثرائها بالأبطال والأحداث الجديدة. ومن الملامح الجمالية للحياة الثقافية والفكرية في البصرة، ملمح النساء الشاعرات الأديبات اللواتي يفقن الرجال ظرفاً وأدباً. ولا يذكر الرّواة أي مظهر من مظاهر فجور نساء البصرة وعربدتها، بل مظاهر وفاء ومحبة وعشق عفيف. أما ملامح التيارات المعرفية والفكرية في البصرة كما يرويها الرّواة، هي معاداة حركة التجارة والرفاهية واكتناز المال، وهي نزعة الشخوص إلى الزهد. وتبدو الملامح السياسية في البصرة في ألف ليلة وليلة محكومة بطغمة من الحكام والوزراء، الذين يعيثون بطشاً بمناوئيهم وتشريداً لهم.

إن بغداد والبصرة ليستا المدينتين العراقيتين الوحيدتين في حكايات ألف ليلة وليلة، بل ذكرت الحكايات مدناً أخرى، منها: دمشق التي ارتحلت الوحدات السردية منها في عدد من الحكايات التاريخية في زمان مرجعي يحدد بفترة الخلافة الأموية، باعتبار دمشق عاصمة مركزية للدولة الإسلامية أيام الخلافة، ثم تفقد مركزيتها السياسية بانزياحها إلى بغداد العاصمة المركزية أيام الدولة العباسية.

تبدو دمشق في حكايات ألف ليلة وليلة جميلة غنّاء ذات أشجار وأنهار وأثمار وأطيار كأنها جنة فيها من كل فاكهة. وهذه الصورة المشرقة لا تختلف عن صورتها التاريخية كما وصفها ياقوت الحموي. وصف الرواة دمشق بأنها بلاد الربح الفاحش والتلاعب بالأسعار، وتجارها لديهم القدرة على استغلال ذكائهم في استثمار الأموال وتنشيطها وتثمينها سواء بالغش أو الاحتكار. ودمشق كباقي مدن ألف ليلة وليلة تحتفي بشرب الخمر وتشهد احتفاء بولائم الطعام والشراب الفاخر والجواري الجميلات.

معظم النساء في حكايات ألف ليلة وليلة على اختلاف الطبقات فاسدات، مهمتهن الترفيه عن الرجل. والرجال سلطويون ضعاف أمام شهواتهم ويتغاضون ويغفرون أخطاء نسائهم وجواريهم. ومدن ألف ليلة وليلة هي جنان أرضية مليئة بالجواري، وهي مراكز تجارية تقدس التجارة والمال.

----

الكتاب: المدينة في ألف ليلة وليلة، ملامحها الثقافية والاجتماعية والسياسية

الكاتب: د. محمد عبد الرحمن يونس

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2008