في كتابه "دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي" يبيّن الفنان والناقد طاهر البني أن النقد سعى دائماً إلى إيجاد معايير يقيس بها ومفاهيم يستند إليها في تقييم العمل الفني. بيدَ أن هذه المعايير والمفاهيم رغم مصادرها المختلفة لم تصمد أمام آفاق العمل الإبداعي وأبعاده غير المتناهية. ولقد حاولت الفلسفة تحديد مفهوم الفن والجمال عبر نظريات مختلفة، فكانت هذه المفاهيم مثار جدل خلاف.

يظل العمل الفني المحور الذي ينهض عليه النقد، ويستمد من خلاله معاييره في الكشف عن أبعاده الفكرية والروحية والتقنية. وكلما كانت ثقافة الناقد ووعيه التشكيلي ناضجين، كان تقييمه للعمل الفني أقرب إلى الحقيقة.

مذاهب النقد الغربي

ويعرض طاهر البني في كتابه مذاهب النقد الغربي ومنها، النقد التقليدي: والذي نشأ في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، ويعتمد على وصف العمل الفني وصفاً أدبياً يهتم بالموضوع والمعنى والبنية اللونية التي تفصح عن عناصر الموضوع وتوحي بمضمونه. أما الحكم على العمل الفني في هذا المذهب، فيأتي من خلال قدرة العمل على محاكاة الطبيعة ومشابهة أبعادها الشكلية والمعنوية ضمن صياغة فنية متقنة، وملامح جمالية موحية تتخذ من الجمال الكلاسيكي معياراً للحكم. ويتناول هذا النقد النتاج التشكيل الكلاسيكي الذي ظهر عند الإغريق، وامتدّ ليشمل عصر النهضة الأوروبية وفنون الكلاسيكية الجديدة، التي امتدت حتى منتصف القرن التاسع عشر، كما يشمل بعض النتاج التشكيلي في عصرنا، ومعظم الذين كتبوا في هذا النقد من الأدباء والمفكرين وبعض الفلاسفة والفنانين الذين توافرت لهم الذائقة الأدبية.

أما النقد الأيديولوجي، فيسعى إلى الكشف عما يتضمنه العمل الفني من قيم عقائدية أيديولوجية، ترتبط بالمفاهيم والأفكار الدينية أو الأخلاقية أو السياسية أو الاجتماعية عبر العصور، ويكون معيار نجاح العمل الفني مرهوناً بقدرته على تجسيد بعض تلك القيم على الوجه الأمثل.

وهناك النقد التاريخي، الذي ظهر في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، ويتناول الظروف التاريخية والبيئة الاجتماعية التي نما فيها العمل الفني. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن العمل يكتسب قيمته بما يمثله من قيم فكرية وأساليب فنية تتناسب مع المرحلة التاريخية والظروف البيئية التي أُنجز فيها.

كذلك النقد السيكولوجي، الذي يقوم على دراسة المشاعر الدفينة خلف الأشكال والألوان التي يتضمنها العمل الفني بوصفه يحتوي مخزوناً غنياً من الأدلة على حياة الإنسان اللاشعورية، حيث يتضمن العمل رموزاً أو إرشادات تنطوي على معان ودلالات تفصح عن وجدان الفنان وتبوح بانفعالاته.

أما النقد الجمالي، الذي وُلد لدراسة النظام أو الأسلوب الجمالي الذي نُسجت فيه الأشكال على اللوحة الفنية للوصول إلى الفكرة أو الحالة الشعورية التي تعكسها اللوحة. ويسعى هذا النقد إلى تقييم العمل الفني من خلال العناصر الشكلية التي يتكون منها.

ومن ناحيته يبحث النقد التقني/ الأسلوبي في البنية التشكيلية التي يُنجز الفنان بها صبواته التعبيرية والجمالية، ذلك من خلال دراسة قواعد الشكل الفني والألوان، وملاءمة الوسائل والتقنيات لأهداف الفنان التعبيرية. لذلك كان لا بدّ لهذا النقد أن يُلمّ بمبادئ الفنون التشكيلية ووسائل إنجازها وخصائصها (الشكلية والتعبيرية).

وأخيراً هناك المذهب السيميائي، الذي يستبعد كل المذاهب النقدية التي تجعل من النقد سلطة توصف العمل الفني وتحكم عليه وفق قواعد ومعايير، كما يرفض تقييم العمل من خلال ذائقة ومزاج الناقد واتجاهه الفني، بل يبحث هذا الاتجاه عن آلية تهتم بقراءة العمل الفني وفق منهجية تعد العمل نصاً بصرياً قابلاً للقراءة والتحليل من خلال إشارات وعلامات يمكن تفكيكها وإحالتها إلى مكوناتها الأولية قبل إعادة تركيبها من جديد، وتشكيل منظومة دلالية تُفصح عن معنى النص وإدراك أبعاده.

النقد في البلاد العربية

يبيّن البني في كتابه أيضاً أنه حين بدأت بواكير الإنجازات التشكيلية في البلاد العربية تُطل منذ مطلع القرن العشرين، ظهرت الحاجة إلى الكتابة عن تلك الفنون، حيث تحدث الناقد بدر الدين أبو غازي عن تلك البدايات التي ظهرت من خلال كتابه "الفن في عالمنا".

كما أن الشاعر أحمد راسم يُعد في طليعة النقاد والمتميزين في مصر، ذلك ظهر في كتابه "الظلال" الذي يُعد أول دراسة عن رواد الفن المصري. ويُعتبر راسم الناقد الأول في مصر في النصف الأول من القرن العشرين.

وفي مصر أيضاً ظهرت عام 1939 جماعة من الفنانين أطلقوا على أنفسهم "جماعة الفن والحرية"، ضمت مجموعة من أبرز النقاد. وفي عام 1950 أنشأ الفنان محمد صدقي الجباجنجي مجلة "صوت الفنان" والتي ضمت أبواباً متخصصة في نقد المعارض وتاريخ الفن القديم والحديث وغيرها من الأبواب. وبعد توقفها صدرت مجلة "المجلة" ومجلة "الفكر المعاصر" ومجلة "الهلال" المصرية، وفي عام 1971 صدرت في القاهرة مجلة "الفنون" التي شملت فنون المسرح والسينما والموسيقا والعمارة والفنون التشكيلية.

وفي العموم، فقد حظيت الفنون التشكيلية العربية بدراسات موسوعية أنجزها عدد من الباحثين العرب، استعرضوا فيها روائع الفنون العالمية في الشرق والغرب، بالإضافة إلى دراسات الفنون العربية والإسلامية التي كانت بمثابة متاحف تضم كنوز الفن، إلى جانب عشرات الكتب الفنية التي تجمع بين النقد وتاريخ الفن وعلم الجمال وفلسفة الفن.

----

الكتاب: دراسات في النقد التشكيلي وجماليات العمل الإبداعي

الكاتب: طاهر البني

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق