ربما من قرأ هذا الكتاب (فان غوغ .. منتحر المجتمع) للممثل والكاتب الفرنسي أنتونان آرتو (1896 – 1948) سيلتبس عليه الأمر، أهي السيرة الذاتية للكاتب الذي عثروا على جثمانه أسفل سريره في المصح الذي كان يتعالج فيه, أم هو سيرة الرسام الهولندي فنسنت فان غوغ, الذي مات منتحراً قبل هذا التاريخ بنصف قرن في الجنوب الفرنسي. فالفنان السوريالي ومخترع مسرح القسوة, أمضى جزءاً من حياته في مصحات نفسية أيضاً. وبالتالي فبين الرجلين أكثر من وجه شبه, بل بينهما ما أشعر الأول يتطابق مع الثاني.

عندما كتب آرتو, قبيل وفاته بشهور، عن فان غوغ كتابه كان يكتب عن نفسه. يختبئ هنا خلف قناع صنعه لفان غوغ ليتحدث عن نفسه كضحية من ضحايا هذا المجتمع كمبدع نحره المجتمع، من خلال الرسام صاحب الأذن المقطوعة، أخيه، قرينه بل أناه/ الآخر في نهاية المطاف.

كتاب مرجعي لسيرة مشوبة بالأسئلة عن الكينونة والجدوى من احتفاء العالم بفنان أزهق القلق الإبداعي حياته القصيرة؛ عن الألم طريق المبدعين وجلجلتهم وطوق الكتم لأنفاسهم الملتقطة لكل نسمة حرية.. كيف ينام العقل عن بوح الحرية ليلاقي السعادة الأبدية؟

كان آرتو دائماً ينظر إلى ذلك الرسام المابعد انطباعي نظرته إلى قرين له. قرين يكاد يكون هو ذاته تقمصاً له من ناحية فرادة إبداعه ومصيره العقلي وتشابكه مع مجتمع عجز عن أن يفهمه. ومن هنا، حين لاحت الفرصة خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين لصاحب "المسرح وبديله" لكي يكتب نصاً عن فان غوغ لمناسبة معرض أقيم لأعمال هذا الأخير في متحف "لورانجيري" الباريسي، سارع إلى كتابته وكأنه يدرك أنه سيكتب نصاً لطالما حلم بكتابته، يمزج فيه بين حياته وحياة الرسام، بين تناقض الرسام مع مجتمعه ومصير كان يتوقع أن يكون مشتركاً بينهما مع فارق عقود طويلة من السنين. والحقيقة لم يكن آرتو بعيداً عن الصواب في تقديراته، ولو في بعض جوانب التشابه بينه وبين الفنان الكبير، أو بتعبير أكثر سيكولوجية: بوصفه أناه/ الآخر؛ حيث يحاول أن يمعن في تفسير العلاقة التضافرية التي أقامها الكاتب مع الرسام في كتابته عنه.

اللغة المتفجرة التي كتب بها، كانت أقرب إلى غليانه الداخلي، وإلى ما يضطرم في نفسه. لغة كانت تشطح وتتوغل لتعثر على آرتو في فان غوغ. هذه اللغة المتفجرة، ونكاد نقول إنّها ليست لغة فان غوغ، إذا عدنا إلى رسائله إلى أخيه ثيو، بل هي ليست لغته إذا عدنا إلى فنّه.

في فن فان غوغ، نجد عصابيته متركزة في نوع من الهدوء الرقراق، بل في نظرة ذات تركيز، هو من العمق والسلام والإيقاع، بحيث نجد النفس فيه سيّالة منغمة، وتنفذ إلى داخل موزون. لا يتقاطع أسلوب آرتو مع فن فان غوغ، مع ذلك، فإنّ حاجة آرتو ليجد فان غوغ، إنّما هي بالدرجة الأولى دفاع ذاتي. لذا لا نعجب حين نجد أنّ ما بين الرجُلَين من دوران على المصحات، ما بينهما من شبهة جنون، يرفعه آرتو عن نفسه وعن فان غوغ ويرميه على أطبائه وعلى المصح وعلى الطبّ النفسي عامة. ما بينهما من وصمة تلبستهما هما الاثنين، هي ما يتوزّع الكتاب وما يجمعه. آرتو هو غالباً قريب من ذلك، ولا يلبث في نهاية كلّ مقطع وكلّ فصل أن يستعيده وينفذ إليه.

حجة آرتو في ذلك أنّ المجنون الحقيقي، ليس فان غوغ، لكنّه العالم "لأنّ الذي خرج عن السياق الطبيعي، ليس هو الإنسان، بل العالم". العالم هو المريض وكذلك المجتمع، وليس فان غوغ، ومعه آرتو بالطبع، سوى البصيرة النافذة التي اخترع الطبّ النفسي ضدها "مجتمع مريض للدفاع عن نفسه، ضد بصائر نافذة: أزعجته قدرتها الفائقة على الحدس وبعد النظر". أمثال فان غوغ، وآرتو، وجيرار دو نيرفال، الذي يسميه آرتو، ليسوا مجانين، لقد اتهموا بذلك لضرب "صدقية مسائل أساسية" كانوا يستعدون للإفصاح عنها. أعمال فان غوغ الفنية اتهام للمؤسسات والمجتمع، بل للطبيعة نفسها، لكنّ الطب "الذي غدا جثة قديمة غير صالحة للاستعمال" يعلن أنّ فان غوغ مجنون.

في نظره, الطبّ النفسي هو المريض الذي لا يعود سوى "حجرة لغيلان هي نفسها مصابة". ليس المريض فحسب، لكنّه أيضاً المجرم الذي يخنق في مصحاته "أولئك الذين أراد التخلّص منهم" ليمنعهم باتهامهم بالجنون من "بث حقائق لا تطاق". هذه المقولة يثبتها آرتو بالعودة الى حياة فان غوغ الشخصية، إلى طبيبه النفسي وأخيه الذي توفي بعد انتحاره بوقت قصير، لشعوره بالذنب كما يزعم آرتو. يقرر آرتو أنّ غاشيه، طبيب فان غوغ "كان يكره فان غوغ الرسام، كان يكرهه كرسام وكنابغة قبل كلّ شيء" وكطبيب نفسي كان غاشيه، بحسب آرتو "مطبوعاً في الوقت نفسه بالجنون الأكيد".

كان آرتو لا يتوقف عن "التنديد" بعلم النفس الذي أعلن أنه إنما اخترع الجنون من ألفه إلى يائه لـ"مجرد أن يخفي ما يتسم به هو ذاته من ضلال وخطل". وعلى أي حال لم يفت آرتو أن يصف كتابته هذه بأنها "صارمة صرامة لوحة لفان غوغ" و"قاطعة كأذنه المقطوعة" و"محترقة كيده التي أحرقها"؛ كما لم يفته أن يعلن بلغة متمكنة وواعية كل الوعي تتناقض مع ما كان يعتبر أعلى درجات جنونه خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياته، أنه من الأجدر "بالمرء أن يختار جنونه بنفسه، لمجرد أن يتماشى مع إحساسه بالشرف والنزاهة، وأن يلوي عنق كل تلك المؤسسات التي تحاول جهدها أن تكبله".

----

الكتاب: فان غوغ.. منتحر المجتمع

الكاتب: أنتونان آرتو

ترجمة: عيسى مخلوف

الناشر: دار الرافدين، بيروت، 2021