يشير المفكر والناقد "جورج طرابيشي" إلى أن تكتّم المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن مصادره أو تزييفه لها في حالات محددة في مشروعه لنقد العقل العربي، يرغمنا على أن نعيد فتح ذلك الباب من أبواب النقد التقليدي القديم.

حتى الآن، كان الظن أن العقل العربي لم يوضع في نقطة الانتصاف المثلى بين العقل اليوناني القديم والعقل الأوروبي الحديث، بعد طرد سائر العقول الحضارية خارج المثلث الذهبي، إلا بهدف إكسابه لآلئ العراقة والحداثة معاً، وإبرازه في حلّة جديدة من استمرارية تاريخية وجغرافية يزيدها ألقاً وتفرداً، كونها مؤسسة على قطيعة إنثروبولوجية مع سائر الحضارات التي عجزت عن الارتقاء من ممارسة (التفكير بالعقل) إلى ممارسة (التفكير في العقل).

ويرى طرابيشي أننا مدعوون إلى القيام بعملية مقارنة ضدية بين العقل العربي والعقلين اليوناني والأوروبي الحديث، وعندما نقول (ضدية) فهذا يعني برأيه ما يعنيه قول الجابري: "نرى من الضروري اختصار الطريق، والكشف صراحة عن الضد أو الأضداد التي سنستعين بها من خلال المقارنة معها في تحديد هوية العقل العربي، علماً أن كلمة (ضد) هنا لا تعني التعارض والتنافر، بل مجرد الاختلاف، أي أننا عندما نتحدث عن العقل العربي، فنحن نميزه في الوقت نفسه عن العقل اليوناني والعقل الأوروبي الحديث".

ويرى طرابيشي أن وضع العقل العربي بين ناري هذين العقلين، يخفي فرضية عمل أساسية، يصدر عنها الجابري، وهي أن العقل اليوناني القديم والعقل الأوروبي الحديث كليهما متطابقان، فما هما الضد الذي يتحدد ضده فحسب، بل هما أيضاً الضد الذي بتحديده ضده يحدد ذاته أيضاً. وبما أن كل ثالث هو بالضرورة المنطقية وبحسب الدرس الأرسطي بالذات- مرفوع، فإن ضد الضد هو بالضرورة المنطقية أيضاً متطابق بالهوية.

والواقع أن الجابري بعد عرض تحليلي أو إعادة بناء مستعجلة لتاريخية العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث بالمضادة مع العقل العربي الوسيط، لا يلبث أن يماهي بين العقلين في وحدة أبستيمولوجية تامة تارةً باسم الفكر الغربي "اليوناني – الأوروبي" أو "الإغريقي – الأوروبي"، وطوراً باسم الفكر الغربي "اليوناني – الأوروبي"، وتارةً ثالثة باسم الفكر اليوناني الأوروبي أو الثقافة اليونانية الأوروبية. والحال أنه عند هذا المستوى بالتحديد، تعيد المركزية الاثنية الأوروبية إنتاج نفسها بقلم الجابري الذي يتبنى، من دون أي محاكمة تاريخية أو نقدية، أسطورتها الأولى والأخطر بإطلاق الأسطورة القائلة باستمرارية غربية تاريخية وجغرافية بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث.

التغريب

والجابري بحسب طرابيشي عندما يضع العقل العربي في موضع الضدية الماهوية مع العقلين اليوناني والأوروبي الحديث، وعندما يوحد بين هذين العقلين تحت اسم (العقل الغربي) وبالمضادة الأبستيمولوجية مع (العقل العربي)، فإنما يكرس على نحو غير مسبوق في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة عملية المصادرة اللامشروعة والتغريب القسري للتراث اليوناني، الذي يبدو وكأن الصراع على ملكيته يشكل بنداً رئيسياً في مشروع الحداثة الغربية لبناء هويتها على أساس العمق الحضاري.

ويبيّن طرابيشي أن الناقد العربي يمارس التغريب بمعنيين: فهو من جهة يقيم علاقة تطابق ووحدة هوية بين العقل اليوناني والعقل الغربي، ويؤسس من جهة ثانية ما بين العقل اليوناني والعقل العربي علاقة تباين وتفارق تصل إلى حدود الضدية. والحال أنه إذا اعتمد هذه الضدية مع العقل اليوناني نقطة انطلاق لفهم العقل العربي، يكون قد قطع على نفسه السبيل إلى فهم العقلين معاً، وإلى فهم الاستمرارية الحضارية التي تؤسسهما.

لعبة الأضداد

ولعبة الأضداد ليست ثنائية بالضرورة ومغلقة من وجهة نظر طرابيشي، بل قد تكون أيضاً متعددة الأطراف ومفتوحة. وما دامت الأشياء تُعرف بأضدادها، فإن دور ضد الضد في التعريف قد لا يقل أهمية عن دور الضد في تعريف ضده. إن وحدة الهوية بين العقلين اليوناني والغربي هي المصادرة الأبستيمولوجية الكبرى التي يبني عليها الجابري مشروعه في نقد العقل العربي بالضدية معهما، ووحدة الهوية هذه تفرض نفسها كنقطة انطلاق كما كنقطة وصول.

وإذا فرضناها نقطة انطلاق، قلنا إن العقل العربي لا بدّ أن يكون ضداً للعقل الغربي، بقدر ما هو ضد للعقل اليوناني، باعتبار وحدة الهوية بين العقلين (الغربي واليوناني).

وإذا فرضناها نقطة وصول، فهنا يذهب طرابيشي إلى أنه مادام العقلان اليوناني والغربي واحدين في الهوية، فإن العقل العربي لا يكون ضداً لأولهما من دون أن يكون ضداً في الوقت نفسه وبالقدر نفسه لثانيهما.

وفي الحالتين لا يستقيم للجابري مشروعه ما لم يُدخل العقل العربي بعد مقارنته السلبية بالعقل اليوناني إلى حلبة التباري مع العقل الغربي، على الرغم من عدم التكافؤ المطلق، إذ إن العقل العربي يظل قابلاً في نهاية المطاف للمقارنة مع العقل اليوناني، ما دام الاثنان ينتميان إلى فضاء عقلي متشابه وهو فضاء العصور القديمة والوسطى، بينما شأن من يبغي قسر العقل العربي على الدخول في مباراة ظالمة مع عقل الحداثة الذي هو العقل الغربي، كشأن من يودّ أن يعقد مقارنة في الجدوى الإنتاجية بين سكة الفلاح الخشبية في العصور الوسطى والجرار الآلي في القرن العشرين.

وليس ظلم هذه المقارنة بحد ذاته هو ما يستوقفنا، بل كونها مبنية على مغالطة أبستيمولوجية كما على مادة معرفية أصابها قدر من التحريف يصل إلى حد التزوير أحياناً.

----

الكتاب نقد نقد العقل العربي - نظرية العقل

الكاتب: جورج طرابيشي

الناشر: دار الساقي، 1996