وضع المفكر محمد عابد الجابري مشروعاً كبيراً، يهدف إلى دراسة العقل العربي بنية وتكويناً. وقد لاقى هذا المشروع صدى إيجابياً عند كثير من المفكرين، وكذلك فقد كان هدفاً للنقد من عدد آخر من المفكرين. وفي الأحوال كلها، فإن قراءة الجابري للعقل العربي، هي في حد ذاتها خطوة هامة ولازمة.

إن العودة إلى مرحلة النهضة الفكرية والعلمية العربية، تقدم لنا أدلة كثيرة على أن العرب ساهموا بقوة في التقدم العلمي والفكري، حتى إنهم كانوا سادة لفترة طويلة. واستفاد الغرب بقوة، بعد كبوة العرب، من هذا التقدم، وسخروه لتطوير العلوم والأفكار.

وكما يؤكد أحمد زهرة في كتاب "العقل العربي بنية وبناء"، فإن تطوير الغرب للرياضيات لم يكن ممكناً من دون الاعتماد على مبادئ الخوارزمي. وكذلك فإن شك ديكارت لم يكن غريباً عن شك الغزالي، ووضع لامارك وداروين نظرية التطور اعتماداً على نظرية التطور عند إخوان الصفاء، وأشاد كل من دوركهايم وسان سيمون نظرية في علم الاجتماع اعتماداً على بنيان علم العمران والاجتماع البشري لدى ابن خلدون.

حدث انقطاع، وتوقف العرب عن المشاركة في العلوم والفلسفة العالمية؛ حتى إن كتبنا التراثية التي تثبت عظمة تقدم العرب، قد انتقلت إلى مكتبات الغرب وحفظت فيها. وأصبح الغرب في نظر الكثيرين هو الفاعل الأكبر والمنتج الأهم للفكر والعلوم.

هذه القطيعة ما بين الحاضر والماضي، هي التي أدت إلى ضياع الفكر القومي. وحين بدأ النهضويون في محاولة تأسيس فكر معاصر، لم يتمكنوا من أن يقدموا فكراً بنيوياً، وإنما "غرقوا في البحث عن الأخطاء الحالية من خلال أخطاء الماضي. فالارتباط ما بين الحداثة والتراث، يجب أن يكون وثيقاً، ويجب أن نبتعد في رسمنا لفكر الحداثة عن تكرار حوادث الماضي، لأننا بذلك نقع في أخطاء فادحة لا يمكن تلافيها. فمن يريد رسم صورة المستقبل، عليه أن يعتمد على إيجابيات الماضي ويستفيد منها ويبتعد عن سلبياته التي كانت سبباً في المعاناة والمآسي التي عاشتها الأمة في ماضيها".

تعني الحداثة أنه يجب إعادة كتابة التاريخ من جديد بهدف إظهار الحقائق التاريخية بما يفيد مشروع التحديث وبناء فكر قادر على الاستمرار والعطاء.

وضع محمد عابد الجابري كتابه (نقد العقل العربي) وعنون الجزء الأول منه "تكوين العقل العربي". وقد أكد أن هذا الصرح بحاجة إلى تفكيك وإعادة بناء. والعقل العربي الذي يقصده الجابري هو "العقل الذي تكوّن وتشكل داخل الثقافة العربية، في نفس الوقت الذي عمل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها، فإن عملية النقد المطلوبة أو على الأقل كما نريدها أن تكون، تتطلب التحرر من إسار القراءات السائدة واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها دون التقيد بوجهات النظر السائدة".

عندما يتحدث الجابري عن العقل العربي، فإنه يميز العقل العربي عن غيره: "إننا عندما نتحدث عن العقل العربي، فإننا نميزه عن العقل اليوناني والعقل الأوروبي الحديث".

مشروع الجابري يستحق قراءات متنوعة، مع أن هنالك أفكاراً كثيرة ى نتفق معها ونقف بقوة في مواجهتها. إلا أن ما قدمه الجابري على المستوى الفكري العربي، يستوجب التفكير، والتفكير العميق.

----

الكتاب: العقل العربي بنية وبناء

الكاتب: أحمد علي زهرة

الناشر: نور للطباعة والنشر، دمشق، 2007