اعتمد الباحثان الأستاذ الدكتور صالح شقير والدكتور ياسر مراد في كتابهما المشترك "تاريخ الفلسفة الهلنستية" على ركائز هامة في طرح موضوع فلسفي ومعرفة أسس العلاقة الفلسفية التي تمتع بها التطور الفكري للعصر الهلنستي بحيث تمت دراسة ملامح الحياة العامة والنزعة المادية للفلسفة الهلنستية، وتأثير الفكر عند الرواقية والأبيقورية، والشكاك ومدرسة الإسكندرية الفلسفية.

ربط الباحثان جذور التفكير الفلسفي من زوايا متعددة ومتنوعة مع نظريات لأهم فلاسفة العصر من منظور مفهوم الحقيقة والنفس والفارق بين النفس والجسد وماهية الله والخلق ومسألة الكليات والطبيعة وغيرها، وفق فلسفة أوغسطين وبونثيوس وجون سكوت اريجينا وآنسلم من كانتربري، وبطرس أبيلارد وتوما الأكويني وجون دانس سكوتس، وليم أوكام الذي درس مفهوم العلم وطبيعة وعلاقة الفلسفة باللاهوت، من دون أن نسلو أن الباحثين درسا مدرسة شارتر والقديس فيكتور وبونافنتورا، خلال تقسيم العلوم ونظرية المعرفة وغيرها.

أشار الدكتور صالح شقير أن تاريخ الفلسفة يُشكّل سلسلة متداخلة من المراحل التي تعبّر عن تطور التفكير الفلسفي الذي لم يكن بمنأى عن التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، والتي ساهمت بدورها في صياغة مفهوم الفلسفة وتحديد الغاية منها. فعلى الرغم من أن الفلسفة في معناها العام تعني محبة الحكمة، إلا أن الغاية منها اختلفت من عصر إلى آخر تبعاً للتغيرات التي طرأت على المجتمع الذي نشأت فيه. كما شهد التفكير الفلسفي، إن صح التعبير، نكسات أدت إلى جموده وانكماشه في بعض المراحل التاريخية، إلا أن هذا الجمود والانكماش لم يكن مطلقاً، وإنما كان فترة حضانة للعديد من الأفكار التي ساهمت فيما بعد في إرساء دعائم مذاهب الفلسفة ومدارسها التي كان لها أثر مهم في تاريخ الفلسفة. وعليه فإن الحديث عن مراحل جمود في تاريخ الفلسفة هو أمر نسبي.

أضف إلى ذلك الدور المهم الذي تلعبه الأيديولوجيا في إضفاء طابع الجمود على فترة ما من فترات التاريخ الفلسفي، ما يدفع كثيراً من الباحثين إلى العزوف عن البحث والتدقيق في الأعمال التي ظهرت في تلك الفترة. وهذا ما يندرج على الفترة التي نقوم بدراستها في هذا الكتاب، والتي تشمل المرحلة الهلنستية ومرحلة العصر الوسيط اللّتين تمتدان زمنياً ما يقارب الثمانية عشر قرناً، ويُنظر إليها غالباً على أنها عصور ظلام لم يتقدم فيها التفكير الفلسفي، ولم تقدِّم فيهما الفلسفة أيّ شيء جديد، وقد يكون السبب في ذلك قلة النصوص التي وصلت إلينا، فهي لا تتجاوز في بعض الأحيان مقاطع وشذرات مستمدة من المعلقين المعادين لها، إلا أن هذا التقييم السلبي لم يعد ذا أهمية كبيرة في أيامنا هذه، فبعض الباحثين في الفلسفة الهلنستية لم يعدّها فلسفة عقيمة تنتج أشياء لا تستحق التفكير والتأمل؛ وإنما عدّ الفترة الهلنستية فترة فكرية مشرقة، فتحَ الفلاسفة الهلنستيون آفاقاً جديدة من التفكير فيها، وانخرطوا في نقاشاتٍ جمعت بين فلسفة اليونان القديمة والأفكار الشرقية الجديدة الدخيلة على الفكر اليوناني، إذ لم تغب أفكار أفلاطون وأرسطو عن المشهد الفلسفي في تلك الفترة إلى جانب فلاسفة آخرين استقى منهم الفلاسفة الهلنستيون أفكارهم في إرساء دعائم مذاهبهم الفكرية والفلسفية، لذلك فقد وجد الباحثون أنفسهم أمام مهمة تتمحور حول إعادة بناء النسق الفلسفي الهلنستي الذي اصطبغ بالصبغة الأخلاقية، وتمحور حول الإنسان وكيفية إدراك سعادته وتحريره من الآلام والشرور.

والكتاب يتطرق في مضمونه إلى أهم المذاهب والمدارس والفلاسفة في كلتا المرحلتين، الهلنستية والوسيطة، مع الأخذ بعين الاعتبار عرض الموضوعات التي تطرق إليها الفلاسفة مراراً وتكراراً في تلك المرحلة من دون أن يكون هذا العمل موسوعياً.

قسم الباحثان الكتاب إلى بابين، الباب الأول يتضمن الفلسفة الهلنستية، وتم معالجة أهم أفكار المذاهب الفلسفية التي ظهرت في تلك الفترة ابتداءً بالرواقية وانتهاءً بالأفلاطونية المحدثة، مع التركيز على التغيرات الفكرية والفلسفية التي طرأت على الفلسفة اليونانية بعد أرسطو، التي لم يُنظر إليها في هذا البحث على أنها فترة أُفول للفلسفة اليونانية، أو فترة انحدار وتقهقر للفكر اليوناني، وإنما عُدّت حالة طبيعية نتجت عن التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي حدثت في تلك الفترة.

وتم إبراز السمات المحددة لكل فلسفة من هذه الفلسفات متوخيّن تقديمها بأسلوب موضوعي، أما الباب الثاني فقد تطرق إلى الفلسفة الوسيطة، وبين بداية إشكالية مفهوم الفلسفة المسيحية. ومن ثم تناول البحث أهم الأفكار الفلسفية التي ظهرت في تلك الفترة ابتداءً بأوغسطين وانتهاءً بأوكام، مع إبراز التطور الفكريّ والفلسفي الذي أخذ منحى تصاعدياً لعبت فيه كل من أعمال أرسطو "التي ساهم العرب في ترجمتها" وأعمال الفلاسفة العرب والمسلمين دوراً مهماً، وساهم في الحقيقة في التمهيد للانتقال إلى عصر النهضة والعصور الحديثة. فأهمية الفلسفة في تلك الفترة لا تقل شأناً عن الفلسفة اليونانية أو الفلسفة الحديثة أو المعاصرة. والباحث في تاريخ الفلسفة يلاحظ أن العديد من القضايا الفلسفية التي يناقشها الفلاسفة اللاحقون على الفترة الهلنستية والوسيطة كان لها أساس في تلك المرحلة.

يهدف كتاب "تاريخ الفلسفة الهلنستية" إلى توفير مقدمة في الفلسفة الهلنستية وفلسفة العصر الوسيط من خلال تقديم عدد محدد من المفاهيم الأساسية في سياقها التاريخي، حيث تم التركيز على بعض القضايا التي شغلت الفلاسفة في تلك الفترة، مع إيلاء الاهتمام للطريقة التي تم بها طرح تلك القضايا ومناقشتها، والانتباه إلى السياق العام الذي حدد أسلوب التفكير ومنهجيته، ما يساعد في تسليط الضوء على مرحلة محدّدة من مراحل تاريخ الفلسفة كان لها دورٌ مهمٌ في مراحلَ لاحقة عليها.

----

الكتاب: تاريخ الفلسفة الهلنستية

الكاتب: الدكتور صالح شقير – الدكتور ياسر مراد

الناشر: مطابع ومنشورات دمشق عام 2022

3