ما إن يُذكر الروائي حنا مينة، حتى يطل البحر بكل ما ينطوي عليه من دهشة ومغامرة واتساع وخطر وعشق للحياة، متدفقاً في ذاكرة القارئ لأعماله النابضة بشخصيات غنية في بساطتها وفقرها، وأحداث ترصد واقع حياة ومجتمع يتطلع لأفق جديد.

أجيال عديدة عايشت الرواية السورية على وقع وروح أعمال الروائي مينة، أحد أبرز القامات في تاريخ هذه الرواية، وربما كان الأكثر حضوراً بين أبناء جيله والأجيال التالية، فقد تميز إبداعه بالواقعية من جهة التزام الطبقات الفقيرة وتصوير الصراعات والتغيرات الاجتماعية، كما "استخدم أساليب رومانسية في تصوير شخصيات وأحاث أعماله الروائية".

وجسد حنا مينة في رواياته "البحر وغناه، وصور أبطاله والبحارة، وصور صمودهم وتحديهم للبحر وأنوائه العاصفة وجبروته، صور كيف كان البحر يهزمهم مرة وينتصرون عليه مرات".

ويشير الناقد الإيراني مهدي عبيدي في كتابه "جماليات المكان في ثلاثية حنا مينة" الصادر عن وزارة الثقافة، إلى أن الروائي "سعى إلى التجديد، تجديد واقعيته بحيث لا يفترق عن هذه الواقعية، وامتلك رؤية معمارية شديدة التماسك البنائي، ونزعة إنسانية عامة تؤطر أحداثه وأبطاله وأهدافه".

وثلاثية البحر تضم "حكاية بحار، الدقل، المرفأ البعيد"، وتقوم على تتابع حكايتين في الزمن هما حكاية صالح حزوم وابنه سعيد حزوم "الأب صالح الذي يعني رمزاً لماض مجيد نتمنى عودته، وسعيد الابن الذي حاول أن يقلد والده وكان رمزاً للصمود الشعبي، وانتهت سيرته بالجنون والهروب إلى عالم غير معروف، الهروب للبحث عن الوطن والأب والتاريخ".

وقد حقق الروائي شروط الواقعية من خلال "تحليل الواقع ونقده بوضوح، والفهم الجماعي للظواهر الاجتماعية وتأكيده على انهيار مظاهر الفساد والفقر، وبالتالي ثقته بالمستقبل وذلك من خلال النضال الاجتماعي والتضحية والتجربة".

وفي مقاربته للمكان الذي تدور به أحداث أعماله تلك، يشير الناقد عبيدي إلى أن "المكان لا يتشكل إلا باختراق الأبطال له، وتتشكل الأمكنة من خلال من خلال الأحداث التي يقوم بها الأبطال ومن الميزات التي تخصهم".

وبدلالة المكان استطاع الروائي أن يعبر عن مشاعر الشخصيات والمكان لغة بوساطتها يمكن التعبير عن كل الحالات، لافتاً إلى أن سعيد حزوم حين يتحدث عن شراء والده لمنزل حجري ويقوم بشرح مزاياه لوالدته "البيت الحجري في قلب السوق، حيث لا حفر ولا طين في الشتاء، ولا غبار في الصيف"، ليكشف الناقد الغطاء عن إحالة مهمة في هذا الوصف تشير إلى تحجر في شخصية الأم، في حين يشكل هذا الفضاء مع الأب حالة قوة وصمود وقد رصده الروائي "بطريقة واقعية تقريرية، وهذا المكان واحد لكن نظرة الأشخاص إليه تختلف".

والبحر في هذه الثلاثية يتخذ أشكالاً عديدة على المستوى النفسي لأبطالها، فهو في لحظة يمثل العشق والجمال والحرية والحياة "فالبحر رمز الحياة والاستمرارية والميلاد، وهو نقيض الموت، دونه تندثر الحياة وتتلاشى. إنه الجمال والسحر الذي يلف مرسين واسكندرونه واللاذقية وبيروت".

كما أنه في لحظة أخرى قد يكون الخوف والموت، فهو بشكل ما غدار يسلب الأرواح. أي أن له سلطة قسرية يتحدى بها البشر وينتصر عليهم. .وهو كذلك نوع من الهروب والحنين والأمل، ذلك أن عالم الماء زاخر وغني وهو "مظهر تجتمع فيه أغلب الدلالات، وتدور حولها معظم الصور". مذكراً أن صراع البحارة مع البحر هو صراع من أجل "الحرية والانطلاق من قيود الروح والجسد".

في هذه الدراسة المتعمقة والغنية في بحثها الذي شمل جوانب ودلالات كثيرة ومختلفة عن المكان في ثلاثية حنا مينة، يتوقف في أحد الفصول عند "الثنائيات المكانية" في مقارنات تعكس التقابلات والتضادات الثنائية مثل البيت/السجن، حيث نجد أن كل منهما مكاناً مغلقاً لكن البيت اختياري، والسجن مكان إجباري، الأول مصدر الألفة والطمأنينة والثاني اتصف بالضيق والإكراه والقلق.

ومن الثنائيات المدينة "الشارع"/ والحي "الزقاق"؛ حيث تساعد دراسة هذه الفضاءات على إبراز القيم والدلالات المرتبطة بها، ولكل منهما مؤشراته الاجتماعية والنفسية والأيدولوجية.

وثنائية البحر/ الصحراء حيث الثنائيات الغنية بينهما، فالتقاطع بين الحركة والسكون يشتمل على التقاطع بين الحياة والجماد، حيث يفضي ذلك إلى عدد من "القيم والمفاهيم الفنية والفكرية التي يصعب تجليها خارج اجتماع السكون والحركة في نقطة واحدة قابلة للتحقيق الواقعي كالسراب الساكن المتحرك في آن واحد".

----

الكتاب: جماليات المكان في ثلاثية حنا مينة

الكاتب: مهدي عبيدي

الناشر:الهيئة العامة السورية للكتاب