يشكل فكر المهاتما غاندي، صاحب الثورة البيضاء أو اللاعنف، ثقافةً من نوع مختلف عن قادة العالم الثوريين، فهو وإن لم يكن قائداً عسكرياً، إلا أنه تميز بسلوكه ومسلكه في استخدام العلم والفكر، وجمع بين المعرفة العلمية الحقوقية وبين علم الأديان المقارن، إضافة إلى طبيعة المكان وتعدد الديانات في الهند، مكوناً تجربة ذاتية في علاقته مع الحياة، مستخدماً اللاعنف في الوصول إلى استقلال بلاده من الاحتلال البريطاني.

استند المهاتما غاندي إلى علاقة فلسفية أرادها لنفسه قوامها الإيمان في الخالق عبر تجربة تأملية، رافداً لتفاصيلها الصيام المتنوع والطقوس التي فرضها على نفسه، وحينما رغب في توثيقها ضمن منجز فكري عنون كتابه أو سيرته الذاتية "قصة تجاربي مع الحقيقة"، وهي تجاربه مع حقيقة الله ورؤيته وفكره وإيمانه وسلوكه.

كتاب "قصة تجاربي مع الحقيقة" هو سيرة ذاتية بقلم المهاتما غاندي، وقد أوضح أنه ومنذ أربع سنوات أو خمس، وتحت إلحاح من نفر من أقرب أعوانه، وافق على كتابة سيرته الذاتية، قائلاً: "لقد شرعت في ذلك فعلاً. ولكني لم أكد أقلب الصفحة الأولى حتى انفجرت الاضطرابات في بومباي، وظل مشروع الكتابة معطلا ًغير منفذ. ثم عقبت ذلك سلسلة من الأحداث بلغت أوجها بسجني في بيرافدا. وسألني السيد جيرامداس، الذي كان أحد رفاقي في السجن، هناك، أن أطرح كل شيء وأنجز كتابة سيرتي، فأجبت قائلاً: وضعت برنامج دراسة لنفسي، وإني لا أستطيع أن أفكر بعمل شيء آخر حتى أتم هذا البرنامج. وكان خليقاً بي، حقاً، أن أنهي كتابة سيرتي لو أكملت مدة الحكم القاضي بسجني، في بيرافدا، لأنه كان لا يزال ثمة عام واحد لإتمام العمل عندما أطلق سراحي".

وفي إجابة عن سؤال وجه إلى المهاتما غاندي حول الدافع على قيامه بتلك المغامرة، أشار إلى أن كتابة السير الذاتية نزعة خاصة بالغربيين. و"لست أعرف أحداً في الشرق كتب سيرة من هذا الضرب باستثناء أولئك الذين خضعوا للتأثير الغربي".

ونوه بالقول: "لنفرض أنك طرحت غداً تلك الأشياء التي تعدها اليوم مبادئ، أو لنفرض أنك أعدت النظر، في المستقبل، في خططك الحالية، أليس من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تضليل الرجال الذين يكيفون سلوكهم وفقاً لما تفرضه كلمتك، محكية كانت أو مكتوبة؟ ألا ترى من الأفضل ألا تكتب شيئاً من مثل هذا الذي يدعونه السيرة الذاتية، في الوقت الحاضر على الأقل؟".

وتكمن أهمية توثيق السيرة الذاتية لغاندي، في أنها تشمل قصة من قضايا يستطيع الأطفال والكبار فهمها على حد سواء. والغاية منها وضعها أمام الآخرين أصحاب التجارب لتكون ذخيرة لهم.

وهو يؤكد في كتابه "قصة تجاربي مع الحقيقة" بقوله: "أنا أبعد الناس عن أن أدعي أيما درجة من الكمال لهذه التجارب. لقد قمت باستبطان ذاتي عميق، وتحريت نفسي مرة ومرة، وفحصت وحللت كل وضع سيكولوجي، ومع ذلك فأنا بعيد عن أن أدعي لاستنتاجاتي أي نهاية، ولكن ثمة دعوى واحدة أدعيها وهي أن هذه الاستنتاجات تبدو، في نظري، صحيحة على نحو مطلق، وتبدو في الوقت الحاضر نهائية، إذ لو لم تكن كذلك لما بنيت أي عمل على أساسها، ولكني كنت أقوم، عند كل خطوة، بعملية القبول أو الرفض وأعمل وفقاً لذلك، وما دامت أعمالي ترضي عقلي وقلبي، فيتعين علي أن أتمسك تمسكاً وثيقاً باستنتاجاتي الأصلية".

يتابع غاندي: "لقد خلعت على الفصول التي أعتزم أن أكتبها صفة "قصة تجاربي مع الحقيقة"، وهذه سوف تشمل، طبعاً، تجاربي مع اللاعنف، والعزوبة، وغيرهما من مبادئ السلوك التي يعتقد أنها منفصلة عن الحقيقة، أما بالنسبة إلي فالحقيقة هي المبدأ السيد، الذي يشمل مبادئ أخرى عديدة، وهذه الحقيقة ليست هي الصدق في الكلمة فحسب، ولكنها الصدق في الفكر أيضاً، وليست هي الحقيقة النسبية كما نتصورها فحسب، بل الحقيقة المطلقة، المبدأ الأزلي، يعني الله".

ترتبط تجارب غاندي في إدراك الرغبة نحو الإيمان، وهو يدعو لمشاركته تلك التجارب، مؤكداً أنه يستطيع المشاركة، لأن ذلك ممكن حتى بالنسبة إلى طفل.

أما الأسباب التي دعته لاختيار الطريقة والأدوات، فقد أوضح ذلك بقوله: "أدوات البحث عن الحقيقة بسيطة بقدر ما هي عسيرة، وقد تكون متعذرة كل التعذر على الشخص المتغطرس، وممكنة كل الإمكان للطفل البري، وإن ملتمس الحقيقة يجب أن يكون أكثر اتضاعاً من التراب. إن العالم يسحق التراب تحت قدميه، ولكن الباحث عن الحقيقة يجب أن يذل نفسه بحيث يكون في مقدور التراب نفسه أن يسحقه. وعندئذ يكتب له أن يلمح الحقيقة".

----

الكتاب: قصة تجاربي مع الحقيقة، سيرة المهاتما غاندي بقلمه

ترجمة: منير البلعبكي

الناشر: دار العلم للملايين