بقيت مكانة الكندي في ميادين العلوم التربوية خاصة والفلسفية عامةً مجهولةً مدة طويلة قُدرت بقرن واحد، ولم يتم الاهتمام بما جاء به، إلا بعد وفاته نتيجة الحاجة التي فرضتها مستلزمات البحث عن تأريخ العلوم التربوية والفلسفية في انطلاقتها الأولى.

لقد حدد الكندي الغرض من التربية في كثير من المواقف من حيث المثل العليا، ورأيه الفلسفي في الحياة وتربية العقل والشخصية والخلق والكمال المطلق، ويرى الكندي كذلك ضرورة تعويد الإنسان الاعتماد على النفس والتربية الاستقلالية وكسب العلم للعلم لتكوين شعب مثقف كريم الأخلاق.

آراء

تناول الكندي في آرائه التربوية الإنسان في جميع جوانب الحياة، حيث قامت نظرته التربوية على أساس نظرته للإنسان والمجتمع والعلوم المعرفية. ولا تخلو آراء الكندي التربوية من ملامح ذكية بارعة لطالما اعتقدنا أنها من نتاج فكرنا التربوي الحديث، فإذا به يتحدث عن الطفولة المبكرة والميول والقدرات، والتوجيه التربوي والمهني، وطرائق التعليم الفلسفية والكيميائية والطبيعيات والرياضيات والفلك والجغرافيا والموسيقا والأدب، وجميع جوانب العملية التربوية بما فيها العلم الإلهي.

وجميع أهداف الكندي التربوية كانت مستمدة من مذهب صاحبها الفكري ونظرته للإنسان والمجتمع والمعرفة والأخلاق، ومن ظروف عصره وحاجة مجتمعه، لذلك فإن هدف التربية عنده هو خلق مواطن صالح جسماً وعقلاً وخلقاً.

فلسفة التربية

أوجد الكندي منهجية علمية حقق عن طريقها الغايات التي سعى إليها في كل زمان ومكان من خلال عناصر تمثلت بـ (تحصيل العلم والسعي إليه لتحقيق هدف الإنسان وغايته، والعلم اليقين القائم على معرفة طبائع الأشياء، والربط بين النتائج والأسباب لتحقيق الهدف التربوي)، ومن هنا كان اهتمامه بالإنسان خاصة العقل الذي يملك البرهان الساطع عن وجود النفس وخلودها، ودورها في بناء النمو العقلي انطلاقاً من فكرة النفس وأثرها في بناء فكر الإنسان والنهوض، وعملية التربية عنده هي التي تريد أن تتحدث عن خصائصها ومظاهر النمو فيها.

والتربية بالنسبة إلى الكندي لا تهدف إلى المحافظة المجردة على مفردات الجوهر الإنساني، إنما المحافظة على ما يطلب منها من علاقات سوية فيما بينها، وقد عمل الكندي على تأسيس ثقافة عامة تدور في الأصول الحضارية الإسلامية في ميادين الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والمنطق.

لقد كان الكندي يستنبط الهيكل العام للمنهج الفلسفي التربوي الإسلامي من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وهو من الرواد الأوائل بكل أنواع المعارف على اختلافها، وهذا ما يدل على سعة مداركه وقوة عقله وعظيم جهوده، لما قدمه للفكر الفلسفي العربي، وبالتالي الفكر التربوي في مجالات المنطق وعلم النفس والطب والتربية والموسيقا والفلك والرياضيات.

اللغة، العقل، الجمال

لقد بصر الكندي باللغة العربية في جميع فروعها، ومعرفة الغريب والنادر فيها معرفة المتمكن المستحوذ على شؤونها، وظهر ذلك جلياً في تصرفاته باستخدام فروعها، فالتربية اللغوية تهدف بالدرجة الأولى إلى حفظ اللغة وضبطها وسلامتها وتقليدها والوقوف على خواصها وتاريخها وآثارها، لأن اللغة تمثل الأمة وخزانة ثقافتها ومفتاح معرفتها.

كذلك يشير الكندي إلى أن التربية الخلقية ذات شقين، نظري يحدد الإطار الفكري للنظرية الأخلاقية، وشق عملي يبين الممارسات العملية والأخلاقية في عالم الواقع، والغرض الأسمى من التربية الخلقية بالنسبة إليه هو تربية الخلق وحسن السلوك واختيار الفضيلة.

وتهدف التربية العقلية لديه إلى كسب المعرفة وتهذيب العقل، والمهارة في استعمال ما يعرفه الإنسان، ولقد اعتبر الكندي العقل الدليل للكشف عن الحقيقة المودعة في النفس، وهو الذي يهدي الناس إلى الأصول العامة للنظر العلمي والتربية الموضوعية، وهو عنصر ضروري في طريقة البحث الموصل إلى تعريف المفاهيم تمهيداً لتصنيفها.

وتأتي أهمية التربية الجمالية عند الكندي من أن مؤلفاته مليئة بمواطن الجمال، فهو يكتب دائماً بوحي من طبيعته الغنية الحرة التي تنتقل من مجال إلى آخر ومن طريقة إلى أخرى محتفظة بجوهرها الفني الصادق.

----

الكتاب: الفكر التربوي عند الكندي

الكاتب: الدكتور محمود عبد اللطيف

الناشر: اتحاد الكتاب العرب