يعد مفهوم الكمال الحجر الأساسي في الفكر العربي – الإسلامي، وفي الوقت نفسه يستقي الفكر الفلسفي والصوفي نظرية الفيض باعتبارها منطلقاً معرفياً تم التأسيس عليه لبناء رؤية جديدة في سياق بناء فكري له خصوصيته القائمة على "الكمال الإلهي والعقلي المفارق".

يؤكد د. سعد الدين كليب في كتابه "البنية الجمالية في الفكر العربي – الإسلامي" أن نظرية الفيض تشكل منعطفاً أساسياً في بنية الفكر العربي في العصر الوسيط "وهذا المنعطف لا يتحدد بطبيعة الأسئلة المعرفية المطروحة فحسب، بل يتحدد أيضاً بطبيعة الأجوبة التي تمخضت عن ذلك الفكر منذ القرن العاشر الميلادي- الرابع الهجري".

وقد استلهم هذا الفكر نظرية الفيض من مصدرين أساسيين أولهما غربي – يوناني "مدرسة الاسكندرية"، وثانيهما شرقي – فارسي "مدرسة حران". والشكل الأول للنظرية يقول فيه أفلوطين من خلال أقانيم ثلاثة "الواحد والعقل والنفس" ممثلاً لها بثلاث دوائر في مركزها الواحد الذي يفيض فيكون العقل، وبدورها النفس تنتج عن نور العقل ثم تفيض بالموجودات أو المحسوسات.

فيما يذهب أصحاب النظرية الثانية، التي يمثلها الصابئة، إلى القول بوجود روحاني وآخر جسماني، يتصف الأول بأنه "نوراني علوي لطيف" والثاني "ظلماني سفلي كثيف". وعملية الفيض عندهم تقوم على "الباري والعقل والنفس والروحانيات السبعة"، ولكل من الروحانيات السبعة حيز هو أحد الكواكب السيارة وهي موطن لكل منها، ولهذا اهتموا بعلم الفلك بشكل كبير.

وقد تعرف العرب على هاتين النظريتين عبر الترجمة، فمنهم من قال بها ولم يزد كالرازي الذي نهج طريق مدرسة الصابئة، ومنهم من أقام فلسفته على تلك النظرية وذهب بها نحو "الأسلمة" كالفارابي الذي طرح شكلاً جديداً يقوم على "أسلمة نظرية ذات بنية مفتوحة بفهم ذي بنية تأويلية مفتوحة للنص القرآني".

وفي مقاربتهم لنظرية الفيض أقام أخوان الصفا رؤيتهم على تراتبية "الله، العقل الفعال، النفس، الهيولى، الجسم". ويحتل الرقم سبعة عندهم مكانة خاصة، ويتحدثون عن "الباري تعالى، الأمر، الكلمة، العقل، النفس، الجسم المطلق". ويذهبون إلى أن "الجسم حجاب النفس، النفس حجاب العقل، والعقل حجاب الأمر، والأمر حجاب الكلمة، والكلمة حجاب الباري".

ويشير الباحث إلى أن ابن عربي، المتصوف –الفيلسوف أقام "بنياناً معرفياً متكاملاً" أخذ منه كل من جاء بعده، وذهب إلى تحديد أربعة أقانيم: الحق أو الذات الإلهية، العقل أو الحقيقة الكلية، الطبيعة الكلية أو النفس، الجسم البشري أو الإنسان الكامل. وقد خالف من سبقوه في أن كمال الفيض ينتهي إلى نقص، إذ رأى "في نهاية الفيض وصولاً إلى الكمال، كمال الفيض، وقبل وصوله إلى الكمال يكون ناقصاً، ويزداد شيئاً فشيئاً، في كل مرتبة يتوضع فيها. إن كمال الفيض هو أن يحدث منه الإنسان".

وتنقسم العلوم عند ابن عربي إلى أقسام ثلاثة: علم العقل ويحصل بالنظر وهو خاص بالفلاسفة. علم الأحوال ويحصل بالذوق وهو خاص بالمتصوفة. علم الأسرار ويحصل بالوحي وهو خاص بالنبي والولي.

وعنده أن "العقل مستفيد من الحق تعالى مفيد للنفس، والنفس مستفيدة من العقل وعنها يكون الفعل". و"النفس الفائضة عن العقل يقغ على عاتقها الفعل في المادة بأن تفيض الصور عليها فتعطيها حركة وحياة".

وكما أشرنا في البداية فالكمال يعد جوهراً أساسياً في الفكر العربي، ويتحدد بمستويات ثلاثة: الوجودي والمعرفي والجمالي، وفي الأول منها تم تحديد الكمال على أنه ماهية الوجود، وفي الثاني تم النظر إلى الكمال على أنه مقولة معرفية تحدد الخصائص المادية أو المعنوية أو كليهما للظاهرة أو الشيء، والثالث حيث الكمال هو الأصل أو الجوهر في الجلال والجمال.

ويؤكد الباحث أنه لو لم يكن لنظرية الفيض سوى هذا الأثر، الكمال، في الفكر العربي "فإنه يكفيها أن تكون قد طبعت الفكر الجمالي العربي بطابعها الجوهري، وهو محورية الكمال. فأثر هذه النظرية لم يكن ثانوياً أو عارضاً، بل هو أثر جوهري مؤسس. أو الأصح أن نقول إن تلك المنظومة الجمالية قائمة بنيوياً على مفهوم الكمال".

ويتحدد مفهوم الكمال في الفكر العربي "بحصول الموجود على سماته الوجودية الخاصة به المميزة له من سواه، من دون زيادة أو نقصان"، ويرى ابن سبعين أن "حد الكمال هو الذي لا يقبل الزيادة ويختل بالنقصان".

ويتجلى الكمال في عدة مستويات: الكمال الإلهي والروحاني، الكمال العقلي، الكمال الأخلاقي، الكمال الاجتماعي، الكمال الفني في الشعر والموسيقا.

أما القيم الجمالية فتتجسد في الجلال والجمال والقبح. واللذة الجمالية تتفرع بأشكال عدة: اللذة الحسية، المعنوية – العقلية، الروحانية، الفنية.

يتسم الكتاب بالوضوح والعمق في تقديم موضوعاته، ما يجعلها قريبة من القراء غير المختصين، ويقدم لهم وجبة فكرية غنية في مقاربتها لنظرية فلسفية خضعت لنظر عقلي متعدد الوجوه بتعدد الفلاسفة والمتصوفة ورؤاهم.

----

الكتاب: البنية الجمالية في الفكر العربي الإسلامي

الكاتب: د. سعد الدين كليب

الناشر: وزارة الثقافة، دمشق،