في العام المنصرم فازت لوحة "مسرح أوبرا الفضاء" بالجائزة الأولى في مسابقة للرسم أعلن عنها متحف كولورادو. والمسابقة تأخذ بعين الاعتبار الأعمال الفنية التي يُستخدم فيها الكمبيوتر, إضافة إلى تلك التي تصنعها أيادي البشر وحدها.

اللوحة عبارة عن ثلاث نساء تعلَّقت أنظارهن بنافذة دائرية كقرص شمس، لا تتوانى الأشعة الصادرة منها عن السطوع في أرجاء المكان، في مشهد تهبط فيه الألوان بلا كلفة من لون الذهب إلى اللون الأحمر الصريح إلى البرتقالي الداكن، فيما يبدو وكأنه تلاقٍ بين العصور الوسطى الخاوية والمستقبل. رسمها الفنان الأميركي جاسون آلان, وهو هاو للرسم والفن الرقمي, بواسطة تطبيق رقمي ذكي يدعى ميدجورني Midjourney. باستطاعته قراءة خيال كلمات الإنسان، ويحولها إلى صور. وهو واحد من تطبيقات عديدة مماثلة شاركت في المسابقة. وهذه التطبيقات تعمل عبر الاستفادة من المخزونات الرقمية الهائلة من الصور والرسوم, ويستحضر منها ما يتلائم مع ما يطلب منها استخراجه, ثم يتولى مستخدم التطبيق توليف الصور كي يصنع لوحة فنية.

لوحة "إدموند دي بيلامي"، وهو عمل فني أُنشِئ بواسطة برنامج ذكاء اصطناعي أيضاً بأسلوب البورتريه الأوروبي في القرن التاسع عشر, عُرض للبيع قبل أربعة أعوام, تحت شعار "الإبداع ليس حكراً على البشر". في البداية، قُدِّر ثمن اللوحة بنحو 10 آلاف دولار، بعدها قفز السعر إلى 432,500 دولار. وكانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تبيع فيها دار للمزادات كريستيز لوحة لم تُرسم بواسطة فنان بشري حقيقي.

كما وشهد عام 2016 تصميم إحدى لوحات الفنان رامبرانت المعروفة باسم "رامبرانت القادم" بواسطة جهاز حاسوب, بعد مرور أكثر من 351 عاماً على وفاة الرسام.

ولقد تطلب إنتاج هذه اللوحة بهذا القدر من البراعة التكنولوجية والفنية تحليل 346 لوحة من لوحات الرسام رامبرانت وتحسينها بواسطة خوارزميات التعلم المتعمّق لإنشاء قاعدة بيانات فريدة، كي يتسنى بعد ذلك التقاط كل تفاصيل الهوية الفنية لرامبرانت والتعرف عليها ووضع الأساس لخوارزمية قادرة على إنتاج تحفة فنية غير مسبوقة. واستُخدمت طابعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج هذه اللوحة الفنية من خلال إعادة إنتاج نسيج ضربات الفرشاة وطبقات الألوان على القماش للحصول على نتيجة مذهلة يمكن أن تخدع أي خبير فني.

وفي سياق آخر، أعلنت شركة التكنولوجيا الصينية "هواوي" في عام 2019 أن خوارزمية الذكاء الاصطناعي تمكنت من إكمال النغمتين الأخيرتين من السيمفونية رقم 8، وهي المقطوعة الموسيقية غير المكتملة التي بدأها فرانز شوبرت في عام 1822، أي قبل 197 عاماً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يحدث عندما تتمكن تقنيات الذكاء الاصطناعي من إنتاج الأعمال الفنية بنفسها؟ وإذا استبدلنا مؤلفاً بشرياً بالآلات والخوارزميات، فهل سيكون هناك أي حقوق مؤلف؟ وهل يمكن، بل هل ينبغي، الاعتراف بالخوارزمية كمؤلف، وبالتالي منحها نفس الحقوق التي يتمتع بها الفنان؟

وهل يأتي اليوم الذي تصبح فيه حِرَف المصممين والفنانين وقد عفا عليها الزمن؟ وكيف لنا أن نُصدر حكماً عقلانياً حول إذا ما كان عمل ما ضرباً من الإبداع الفني أم لا؟ وهل الأصالة حكر على البشر دون الآلات؟

الأرجح أنها إشكالية مفارقة باتت جديرة بالتقصي بشكل دائم، بل ربما يومي، خصوصاً أن الحياة اليومية للبشر لم يعد ممكناً فصل نسيجها عن الحضور المتعدد لذكاء الآلات الذكية، ويشمل ذلك الأبعاد الافتراضية والرقمية والتواصلية والاتصالية وغيرها. حقل شائك كرس نفسه، أو أنه ظهر بشكل لم يعد قابلاً للتغاضي عنه, منذ أن فاز الكمبيوتر "ديب بلو" عام 1997على أسطورة الشطرنج غاري كاسباروف، وهو أحد أعظم أساطين تلك اللعبة الفكرية تاريخياً. بعد ذلك، تعددت أشكال القلق البشري من التطور الذي يصنعه الإنسان بنفسه، مع بروز تفوق الذكاء الاصطناعي في ألعاب متنوعة كـ"غو" الصينية، وتقدمه في مجالات الطب والهندسة والتصميم المعماري.

لا عجب أن ما فعله آلان أثار جدلاً كبيراً، وأجَّج العديد من المخاوف الكامنة حول تأثير التكنولوجيا على مستقبل الإبداع، والطريقة التي يهدد بها الذكاء الاصطناعي مستقبلنا الوظيفي واضعاً إياه على المحك على المدى البعيد، وهو ما عبَّر عنه أحدهم تعقيباً على منشور ردّ فيه صاحب اللوحة على الهجوم على لوحته الفنية, حيث أثار زوبعة من الاعتراضات والمناقشات الحامية, بالقول: "نحن نشاهد موت الفن أمام أعيننا"، تصريح يعود بنا بالذاكرة إلى صرخة الشاعر الفرنسي بودلير, صاحب ديوان "أزهار الشر" حينما وصف اختراع التصوير في القرن التاسع عشر, بأنه "العدو القاتل للفن". وسبق أن صرَّح إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تسلا، قائلاً: "الذكاء الاصطناعي قد يكون أشد فتكاً من الأسلحة النووية، ومُمثِّلاً أكبر تهديد وجودي لنا".

من وجهة نظر الفيلسوف آلان بوتون, يعتبر أن الجزء الأكبر من الفن الذي صنعته البشرية ينطوي على علاج وعزاء بتعاطيه مع مسائل الفقر والتمييز والقلق والندم والخزي والعزلة والشوق. من هذا المنظور يصير الفن تعبيراً حراً عن أفكارنا وعواطفنا وأعمق رغباتنا، ونقلاً لانطباعاتنا المعقدة التي لا يمكن أن تدركها الكلمات وحدها. لكن المحتوى الذي نُنتجه أياً كانت وسائطه، ليس فناً في حد ذاته بقدر ما يكمن الفن فيما ينقله هذا الوسيط من مشاعرنا المعقدة، وهذا ما يقودنا إلى السؤال المحوري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصنع فناً؟

من جانبهم يؤكد المدافعون عن تقنيات الذكاء الاصطناعي أن العنصر البشري لا غنى عنه لتوجيه وتسيير تلك العملية، تماماً كما حدث مع آلان ولوحته. ومنهم يؤكد على أن لوحات الذكاء الاصطناعي ليست إلا تقليداً للفن والإبداع، لأن الآلات المبرمجة تعوزها الإرادة الحرة, وهذا يتطابق مع قول المفكر ماركوس غبرييل في كتابه " معنى الفكر" إن الأعمال الفنية هي نتاج إبداع فردي ليس إلا، واصفاً الفن بأنه غير قابل للتكرار.

هذا وقد أنشأ أحد المختبرات حديثا برنامجاً يُدعىAICAN بحيث يمكن اعتباره فناناً شبه مستقل، يتعلم الأنماط والجماليات التي تُمكِّنه من إنشاء صور مبتكرة خاصة به بعد أن تغذَّت خوارزميته بـ80.000 صورة للفن الغربي على مدى القرون الخمسة الماضية. وقد التزم مُصمِّمو البرنامج عند صناعته بنظرية اقترحها عالم النفس كولين مارتنديل، الذي افترض أن العديد من الفنانين سيسعون إلى جعل أعمالهم جذابة من خلال البعد عن الأشكال والموضوعات والأساليب الموجودة التي اعتاد عليها الجمهور.

وقد قدَّر عالم الرياضيات "ماركوس دو سوتوي" تلك الاحتمالية، ففي كتابه الحديث نسبياً "قانون الإبداع: الفن والابتكار في عصر الذكاء الاصطناعي", يبحث في إمكانية أن يصبح الذكاء الاصطناعي مبدعاً في حد ذاته، حيث يُعرَّف الإبداع بأنه "ابتكار شيء جديد"، مستقصياً الطرق التي يغير بها الذكاء الاصطناعي الموسيقى والفنون البصرية والأدب والرياضيات.

يدس دو سوتوي خفية بين طيات الكتاب فقرة مكوَّنة من 350 كلمة كتبها الذكاء الاصطناعي، مُبدياً لنا أن بإمكاننا أن نرى أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والبشر لا تستوجب الخصومة بقدر ما قد تكون علاقة تعاونية نتجاوز فيها كل انحياز معرفي مسبق.

في بعض الأحيان، يحدث أن تُخفق البرامج في محاكاة الوجوه البشرية فتخرج صوراً مشوهة، شبيهة بالتي رسمها الفنان فرانسيس بيكون، بخلاف أنه في تلك الحالة تفتقر الوجوه المشوهة المصنوعة آلياً إلى المقصد والنية. وثمة نظريات أدبية تدعم فكرة أن المقصد أو النية من عملك ليس مهماً, وهذا ما أجمع عليه خلال عشرينيات القرن المنصرم الناقد الأدبي وليم كورتيس ويمسات والمفكر مونرو بيردسلي بأن النية الفنية ليست ذات صلة. وأطلقوا على ذلك اسم "المغالطة المتعمدة"، معتقدين بأن تقييم نية الفنان كان نهجاً مُضلِّلاً. كانت حجتهم ذات شقين: أولاً، لم يعد الفنانون الذين تمت دراستهم على قيد الحياة للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأعمالهم. ثانياً، حتى وإن توفرت تلك المعطيات، فإن ذلك سيصرف انتباه المشاهد عن جودة العمل نفسه.

واليوم، مع تعدُّد أدوات تحويل النص إلى صورة مثل DALL-E 2 وMidjourney وسهولة استخدامها بواسطة الجميع، يتفاقم القلق من إقبال الناس على الأعمال الفنية المصنوعة آلياً وإعراضهم عن اللوحات التقليدية. لكن في حين أن نماذج التعلُّم الآلي يمكن أن تساعد في صياغة محاكاة مذهلة، يشعر الممارسون أن الفنان ما زال لا يمكن الاستغناء عنه لأنه هو مَن يعطي الصور سياقاً فنياً ومقصداً. ويبقى السيناريو الراجح اليوم هو أن الذكاء الاصطناعي سيصبح أداة للفنانين، لكنه لن يحل محلهم. أما تحديد إذا ما كان ما تُبدعه الآلة فناً أم لا، فهو يعود إليك، لأن الجمال يكمن في عين ناظريه.

----

ترجمة عن موقع مجلة: Le temps