تعني الحضارة في اللغة العربية الإقامة في الحضر أي في المدن والقرى، والحضارة عند ابن خلدون هي طور طبيعي أو جيل من أجيال طبيعية في حياة المجتمعات المختلفة، لكن البداوة عنده أقدم، والبدو أصل للحضر، والحضارة غاية للبداوة.

إن العنصر الأساسي في الحضارة عند ابن خلدون هو إنشاء المدن وبناء البلدان، لذلك كان موضوع الفصل الرابع في مقدمته "في العمران الحضري والبلدان والأمصار"، وكذلك عند ابن خلدون أن القوم إذ يسلكون سبل هذا العمران ويوغلون في الصنائع وفي فنون التأنق وفي مظاهر الحضارة المختلفة يتعرضون حتماً للخراب، لأن الحضارة تحمل في ثناياها بذور الفساد.

وفي العربية الحديثة كلمة مرادفة للحضارة هي "المدنية"، وقد استعمل الفلاسفة لفظ "مدني" بمعنى اجتماعي، آخذين عن اليونان الذين كانت المدينة عندهم مظهر الاجتماع المنتظم المتحضر.

أما في اللغات الغربية نجد لفظتين رئيسيتين تستعملان للدلالة على معنى الحضارة وهي: Civilisation وتعني "المدني أو المواطن في المدينة"، وCulture وهي كلمة ذات أصل لاتيني تقتصر على تنمية الأرض ومحصولاتها، وفي أوائل العصور الحديثة بدأت تستعمل في الإنكليزية والفرنسية بمدلولها المادي والعقلي، ولكل من هاتين اللفظتين تاريخ طويل متشعب وألوان مختلفة من الدلالة.

الحضارة نتاج اجتماعي

والحضارات التي ظهرت في التاريخ متعددة ومختلفة، لكنها تشترك فيما بينها بأنها تنبثق عن طبيعة إنسانية واحدة، وتعبر عن معانٍ إنسانية اصيلة.

وحضارة المجتمع تبدو لنا من خلال الأدوات المادية والنظم والعقائد والفنون وما إليها من وجوه الكسب والإنتاج والإبداع في حياة ذلك المجتمع، كما أن الحضارة تظهر حينما يكون صنع أو إنشاء، وكل ما هو على الطبيعة "المادية الخارجية أو الطبع البشري الموروث" هو مادة للحضارة، لكنه ليس مظهراً لها أو عنصراً من عناصرها.

كذلك الحضارة هي نتاج جماعي، بمعنى أن الفرد وحده لا يُنشئ حضارة، إنما تتكون الحضارة في مجتمع، بل إن الفرد لا يوجد وجوداً حقيقياً إلا في مجتمع؛ وإذ يُنشئ الأفراد ويبدعون، فإنما يحدث هذا بتفاعل قيما بينهم وبين مجتمعهم وتراثهم وتقاليدهم. وبهذا المعنى فالحضارة هي نتاج اجتماعي، أو كما يقول ابن خلدون هي نوع من أنواع العمران، أو طور من أطواره، والعمران بدوره ناشئ عن الاجتماع الإنساني.

كما أن الحضارة لا تقوم فقط بمظهرها بل بنظامها وقيمها، والنظام هو أساس الحياة الاجتماعية، وليس ثمة مجتمع لا يربطه نوع من أنواع النظام، والنظام قد يكون مفروضاً من الخارج أو قائماً من الداخل بالاختيار المكتسب وبالتراضي بين أفراد المجتمع.

التقدم والحضارة

إن مفهومنا للتقدم لا يختلف أساساً عن مفهوم التحضر، والظاهرتان وجهان لحقيقة واحدة، وكل تحضر ينطوي على تقدم عن وضع سابق، وبالعكس فإن كل تقدم يؤدي إلى مزيد من التحضر، وعلى هذا فإن جوهر التقدم كجوهر التحضر، هو في اكتساب التحرر وتحقيق الكرامة الإنسانية، والمقياس الصحيح للتقدم هو إذاً المقياس ذاته الذي نقدر به التحضر، وإن أي جهد يؤدي إلى مزيد من التحرر في ميدان من ميادينه الثلاثة الرئيسية "الطبيعة والبيئة البشرية والذات" هو جهد تقدمي، وأية قدرة مكتسبة في تطويع الطبيعة أو في رفع ظلم إنساني أو في إطلاق الذات من حدودها الضيقة هي كسب تقدمي.

ولكن الحضارة، والتي هي نتاج التحضر والتقدم والتحرر، ليست منحة مبذولة من قدرة خارجية، ولا فعل قدر أو قانون مستقل عن الإنسان، إنما هي حصيلة ما يكتسبه الإنسان ذاته، ورهينة بالصفات والميزات التي تتكون له في جهده الاكتسابي، وهي قابلة للنمو والرقي، كما هي معرضة للفساد والضياع تبعاً لنوع الجهد المبذول والصفات المتكونة. وعلى هذا فإن أي جهد يؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى زيادة الحرية أو إلى صيانة ما حصل منها هو جهد تحضري تقدمي. وبعكس هذا فإن أي خمود في هذا الجهد أو تعطيل له يسبب عجزاً عن الاكتساب التحرري أو إضاعة للمكاسب والإنجازات هو عامل انتكاسي توحشي، وتتمثل هذه الحقيقة في كل وجه من وجوه الحياة وكل مظهر من مظاهرها.

----

الكتاب: في معركة الحضارة

الكاتب: قسطنطين زريق

الناشر: دار العلم للملايين