منذ القدم لفتت المباحث النفسية أنظار الفلاسفة، وقلما وُجد فيلسوف لم يكن له في البحث عن النفس وطبيعتها أثر، وما حمل الفلاسفة على البحث في ذلك هو رغبتهم في بيان القواعد الخلقية التي ينبغي للإنسان اتباعها في حياته.

مباحث علم النفس قديمة يصعب الاهتداء إلى أولها، إلا أن اليونان أنفسهم والعرب والأوروبيين حتى القرن التاسع عشر، لم يدركوا ما لاتباع الطريقة العلمية التجريبية والأسلوب الوضعي من الأثر في معالجة المسائل النفسية، وإن ما أعاق علم النفس عن التكامل منذ القدم تجاه نظر الإنسان بتأثير ضرورات الحياة إلى الأشياء المادية قبل الأشياء المعنوية.

ولقد قام طائفة من فلاسفة الإنكليز "فلاسفة التجربة" بفصل علم النفس عن علم ما بعد الطبيعة، حيث قرروا تأسيس علم النفس على الملاحظة، إلا أن طريقتهم كانت ذاتية يرجع فيها العالم إلى نفسه، فيصف ما يجري فيها من الأحوال الداخلية، وقد اعتمدوا في طريقتهم هذه على التحليل، ليرجعوا به الحياة النفسية إلى عناصرها الأولى، ومنهم "جون لوك ودافيد هيوم وجيمس ميل وستوارت ميل وتوماس براوفن وألكساندر بن وهربرت سبنسر".

كذلك كان للفلاسفة الاسكوتلنديين رأي في طريقة علم النفس وموضوعه يمكن ضمه إلى الرأي الأول، حيث اتبعوا طريقة المشاهدة الداخلية، وفصلوا علم النفس عن علم ما بعد الطبيعة، ومنهم "ريد ودوغالد ستوارت".

أما الفلاسفة الروحيون فقد كانوا يؤسسون علم النفس على المشاهدة الداخلية في حين كان الفلاسفة الطبيعيون من علماء وأطباء يستندون في مباحثهم النفسية إلى طريقة المشاهدة الخارجية، ذلك لأن للحوادث النفسية آثاراً خارجية يمكننا مشاهدتها كما يمكننا مشاهدة الحوادث الطبيعية.

ولقد كان أول من فكر في تأسيس علم نفسي هو "هربارت" الذي زعم أن ظواهر الحياة الداخلية خاضعة لقوانين النفس كخضوع ظواهر السماء لقوانين الفلك. أما أول من فكر في تأسيس مخبر نفسي في فرنسا كان "بونيس" في جامعة السوربون وكان لـ "ألفريد بينيه" فيه شأناً عظيماً حيث جمع إلى طريقة المخابر التجريبية طريقة التأمل الباطني، وسُميت طريقته هذه بطريقة "التأمل الباطني التجريبية"، وقد طبقها "ألفريد بينيه" في مباحث التربية.

ولم يكتف علماء النفس بدراسة الأحوال النفسية في الإنسان الراشد المتمدن، بل وسعوا دائرة بحثهم وتناولوا دراسة الطفل والأجناس البشرية، ليجدوا أن الأحوال النفسية تختلف باختلاف السن والجنس والجماعات.

السيكولوجيا

لم يتفق العلماء على كلمة سيكولوجيا إلا في القرن الثامن عشر، ومن المرجح أن الفيلسوف الألماني "وولف" هو أول من استعمل هذه الكلمة في كتبه، واستعملها بعده "كانط"، فأدى ذلك إلى انتشارها في جميع اللغات الأوروبية، ذلك رغبة من العلماء في فصل علم النفس عن علم ما بعد الطبيعة.

والسيكولوجيا/ علم النفس هي العلم الذي يبحث في الظواهر النفسية، ويمكن تصور هذا العلم على وجهين، الأول: أن ندرس الظواهر النفسية فنستخرج منها بعض النماذج العامة، أما الثاني: فلا يكتفي فيه العلم بتأليف السجايا العامة والأنواع الخلقية والنماذج والصور الكلية التي تتميز بها النفس الإنسانية، بل يتوخى كشف القوانين العامة التي تخضع لها الظواهر النفسية.

الملاحظة في علم النفس

إن السيكولوجيا علم تجريبي تبنى قوانينه على ملاحظة الظواهر النفسية، إلا أن الظواهر النفسية ليست خارجية كسائر الظواهر الطبيعية، إنما هي داخلية نطلع عليها بالشعور.

فإذا اعتمدنا على شعورنا في إدراك الظواهر النفسية كانت طريقة اطلاعنا ذاتية ومباشرة، وإذا عمدنا إلى تفسير بوادر الأفعال وظواهر الحركات وما يرافقها من الإشارات كانت طريقة اطلاعنا موضوعية وغير مباشرة، لذلك انقسمت الملاحظة النفسية إلى قسمين، الأول: ملاحظة ذاتية داخلية، وهي ملاحظة الإنسان لنفسه وشعوره بأحواله الداخلية، واطلاعه على إحساسه وإدراكه، وأفكاره وإرادته المنسجمة في تيار نفسه، فإما أن يلاحظ هذه الأحوال الداخلية بالشعور التلقائي أو بالشعور التأملي.

أما القسم الثاني: فهو الملاحظة الخارجية سواء المباشرة من خلال ملاحظة الناس مباشرة ودراسة سلوكهم وأفعالهم، وهي ملاحظة ممكنة في كل وقت، أو الملاحظة الخارجية غير المباشرة التي تعتمد على تأويل العالم لملاحظات الناس لأنفسهم، وعلى تحليله لآثارهم من خلال طريقتين هما "طريقة السؤال وطريقة الاختبار".

تكوين الشخصية

تبنى فكرة الشخصية على تصورنا لجسدنا، أي على الإحساسات التي نطلع بها عليه، كإحساس البصر والإحساس العضلي والحس المشترك، وما يشتمل عليه من الإحساسات العضوية التي تسمى بالحساسية العامة.

ولطبيعة الجسم أثر في تكوين الشخصية، فقد يكسب صاحبه سلطاناً واعتزازاً، كذلك بالنسبة إلى القوة البدنية وصحة الجسد ونشاطه، وقد أثبت العلماء كذلك أن للغدد الصم أثراً فيما يطرأ على الشخصية من تبدل وتغير.

كذلك لهيئة الوجه أثرها العظيم في الشخصية، والسبب أن قسماً كبيراً من انفعالاتنا يظهر على وجوهنا، كما أن لجسدنا وحدة عضوية لأن الجملة العصبية تنظم انطباعاته وتجمعها، وهذه الوحدة العضوية هي الأساس الذي تبنى عليه وحدة الشخصية.

ومن عناصر معرفة الشخصية الذكريات وتصور الماضي، فلولا الذاكرة لما كان للإنسان عقل ولا شخصية ولا شعور، وليست الذكريات الغامضة أقل تأثيراً في الشخصية من الذكريات الواضحة.

كذلك للعامل الاجتماعي وتصور الحاضر تأثير كبير في تكوين الشخصية، لأن المرء لا يفكر في نفسه فحسب، بل يفكر في أسرته ومهنته وبلده ووطنه، أيضاً في اسمه وشهرته وثقة الناس به ومعيشته وثروته.. إلخ، ولأن الإنسان يعيش في المستقبل كما يعيش الماضي، فإن لتصور المستقبل تأثيره في تكوين الشخصية كذلك.

إذاً الشخصية واحدة بالرغم من كثرة عناصرها لأن عناصر الشعور ليست متفرقة أو مبعثرة إنما هي متصلة، فالوحدة هي من أولى صفات الشخصية تليها الهوية ثم الفاعلية أو التلقائية، وليس بين وحدة الشخصية ووحدة الأجسام مماثلة، لأن لكل من هاتين الوحدتين صفات خاصة تختلف عن صفات الأخرى.

----

الكتاب: علم النفس

الكاتب: جميل صليبا

الناشر: دار الكتاب اللبناني، بيروت،