يشكل كتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للمفكر الدكتور حسين مروة مأثرة خالدة في تراثنا العربي الإسلامي، فهو موضوع معرفة وتحليل لجوانب سلفية منغلقة، وعقلانية مستنيرة، إذ شكل بجزأيه عوامل امتلاك معرفي ليس للتراث فحسب، بل أيضاً للواقع العربي بكل مكوناته الطبقية والسياسية في كل مجتمع من مجتمعاته.

اعتمد المفكر الدكتور حسين مروة على المنهج التحليلي الماركسي في صياغته، منطلقاً من "أن التراث موضوع معرفة، وأن المعرفة تُنتَج، وأن سيرورة إنتاج المعرفة سيرورة معقدة تتمفصل فيها عناصر متعددة أهمها على الإطلاق، عنصر ادوات الإنتاج"، لعل ذلك أوضح شرعية المنهج الماركسي، في الضرورة الموضوعية لاستخدام المفاهيم النظرية، منها أدوات إنتاج المعرفة العلمية بالتراث. وبالتالي فقد طرح الكاتب الفكر المعلّق في سماء تصوراته وتجريداته بإعادة اكتشاف القاعدة المادية التي منها انطلق، فتعرّف على نفسه بعد أن كان ينسى نفسه، أو أنساه إياها فكره المثالي.

انطلق المفكر الماركسي في محاولته إنتاج معرفة التراث، ليؤكد في ملموس بحثه، أن الفكر الثوري للطبقة العاملة هو القادر على التملك المعرفي للتراث، من موقع اختلافه مع ما سبقه من أفكار، لأن هذا الاختلاف نفسه أساسي لذلك التملك المعرفي، ولأن الطبقة العاملة وريثة كل ما هو ثوري في التاريخ.

إن الترابط الذي نعنيه في مسألتنا هو ترابط واقعي موضوعي، أي هو حقيقة بالفعل، بمعنى أنه من غير الطبيعي أن تظل حالة التخلف أو الركود المعرفي ظاهرة سائدة إلى حد كبير في الأوساط الثقافية والسياسية. إذ إن هشاشة وتخلف الوعي بمبادئ ومنطلقات الماركسية ومنهجها، يؤدي إلى تراكم العوامل التي تعزز تراجع القوى اليسارية وفقدانها لتأثيرها في أوساط الجماهير الشعبية، خاصة وأن هذه القوى بدرجات متفاوتة لم تعد تعطي الجانب الفكري عموماً والنظرية الماركسية والصراع الطبقي خصوصاً، الأهمية المطلوبة في بناء حركاتها، وهو قصور ملفت وخطير، سيؤدي بالضرورة إلى توليد وتراكم المزيد من عوامل التراجع والتفكك في بنية الأفكار اليسارية العربية.

إن ثورية الموقف من قضايا الحاضر، تستلزم الانطلاق من هذا الموقف نفسه لرؤية التراث، أي لمعرفته معرفة ثورية، أي لبناء هذه المعرفة على أساس من أيديولوجيا القوى الثورية نفسها في الحاضر.

يؤكد مروة أنه من المستحيل أن نكون ثوريين في موقفنا من قضايا الحاضر، دون امتلاك الوعي العميق بالماركسية ومنهجها من ناحية، ودون امتلاك الوعي الثوري العقلاني والموضوعي في موقفنا من تراث الماضي من ناحية ثانية، وتلك هي الفكرة المركزية التي دفعت به إلى إعمال عقله وجهده البحثي والمعرفي لتقديم كتابه الموسوعي هذا.

ويذكر د. مروة "أن المنهج المادي التاريخي وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركته التاريخية، واستيعاب قيمه النسبية، وتحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا كشاهد على أصالة العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية والديمقراطية من تراثنا الثقافي وبين العناصر التقدمية والديمقراطية من ثقافتنا القومية في الحاضر".

وبالتالي "فإن مسألة إعادة النظر في هذا التراث ليست جديدة، وإنما هي وجه تحولي جديد لمسألة بدأت منذ أكثر من قرن. بدأها فريق من المفكرين والمثقفين العرب برزوا كطلائع لتلك الحركة المسماة بـ"النهضة العربية" الحديثة معبرين بعفوية في المجال الفكري عن بداية التخلخل موضوعياً في علاقة البنى الاجتماعية الإقطاعية العربية بسيطرة الإقطاعية العسكرية الحاكمة في دولة الخلافة العثمانية التركية.

إلى جانب عامل التخلخل في علاقة البنى الاجتماعية العربية بسيطرة الحكم الإقطاعي العسكري العثماني المتخلف والمنحل تاريخياً، كان عامل آخر يؤدي دور المؤثر أيضاً في دفع أولئك الفريق من المفكرين والمثقفين العرب للتعبير فكرياً عن مقدمات ما سمي بـ"النهضة العربية" التي كانت في الواقع الشكل الجنيني لما سيصبح حركة التحرر الوطني العربية الحاضرة".

وفي ضوء ذلك، يقدم المفكر د. حسين مروة في تقديم كتابه طريقة في التعامل مع التراث الفكري العربي الإسلامي تعتمد منهجية عملية، كما يؤكد على أن أسلوب دراسة أو معرفة التراث الفكري من منظور المنهج المادي الجدلي التاريخي، يكمن في النظرة الجدلية إلى علاقة الحاضر بالماضي، وإلى العلاقة بين المعرفة المعاصرة بالتراث في ضوء المناهج المعاصرة، والمضمون الفكري والاجتماعي الذي يحتويه التراث، وهذه النظرة الجدلية، تعتمد على موضوعين:

1- كون معرفتنا بالتراث نتاج علم وأيديولوجيا معاصريين.

2- كون هذه المعرفة رغم انطلاقها من منظور الحاضر، عملياً وأيديولوجياً، لا تستوعب التراث إلا في ضوء تاريخيته، أي في ضوء حركته ضمن الزمن التاريخي الذي ينتمي إليه، أو بعبارة اكثر دقة، لا تستوعب التراث الفكري إلا من وجهة علاقته بالبنية الاجتماعية السابقة التي أنتجته، وبالظروف التاريخية نفسها التي أنتجت بدورها تلك البنية الاجتماعية مع ما لها من خصائص العصر والمجتمع المعين.

وينطلق موقف مروة من التراث الفكري الإسلامي من فكرة أن تراثنا الفكري، شأن أي نتاج حضارة، ظاهرة تاريخية، متناقضة، متصارعة، شأنه الوحيد هو الحركة وقانونه الأساس هو الصراع: القدرية، المعتزلة، ضد الجبرية، الإبداع ضد الاتباع، العقلانية ضد اللاعقلانية، لذلك يرفض القراءة السلفية للتراث الفكري، ويرى أنها تنطلق من إسقاط الماضي على الحاضر، أي برؤية الماضي والحاضر رؤية سكونية ثابتة، حيث يرى أن معارف عصرنا كلها موجودة في الماضي ومنقولة عنه بلغة العصر، فليس هناك شيء منها لا يوجد في التراث.

وأكد في نقده لمفهوم التخلف تلك الحلقة الدائرية المفرغة التي يسقط بها الفكر العربي المعاصر، فيرى في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي نتاجاً للتخلف العقلي، الذي يعود إلى كون هذا العقل ليس معاصراً.

ويضيف في مقدمة كتابه إذا كان الفكر البرجوازي العربي يحاول، في جو التحولات النوعية الثورية داخل حركة التحرر الوطني العربي أن يحل المشكلة وفقاً لمواقفه الأيديولوجية، فقد حان الوقت إذاً للفكر العربي الثوري أن يقدم الحلول لها أيضاً وفقاً لأيديولوجيته الثورية، أيديولوجيا الطبقات والفئات الاجتماعية التي تقف في المعسكر المواجه لمعسكر البرجوازية اليمينية الرجعية.

بناء على هذه الاستنتاجات نرى أن حل مشكلة العلاقة، حلاً علمياً، بين حاضرنا العربي، بكل أبعاده الوطنية والاجتماعية والفكرية، وبين تراث ماضينا الفكري، يتوقف على توفر الوضوح العلمي لدينا عن حقيقتين: أولاهما، حقيقة المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني العربية في حاضرها وفي آفاق تطورها المستقبلي. وثانيهما، حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذا المحتوى وثورية الموقف من التراث. بمعنى ضرورة كون الموقف من التراث منطلقاً من الحاضر نفسه، أي من الوجه الثوري لهذا الحاضر.

----

الكتاب: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية.

الكاتب: الدكتور حسين مروة

الناشر: دار الفارابي – بيروت 1985