مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، بدا للجميع أن العالم سيقبل على مرحلة جديدة تقلب المفاهيم التي كانت سائدة في ظل عملاقين انهار أحدهما وتراجع للخلف تاركاً الساحة للولايات المتحدة لتنفرد بقيادة العالم.

بعد نهاية الحرب الباردة أصيبت القيادة الأمريكية، وعلى رأسها جورج بوش الأب، بالرعب إذ إنه وضعها أمام تداعي وانهيار مبرراتها لشعبها حول الاستمرار في الإنفاق العسكري الهائل على التسلح وأجهزة الاستخبارات دون وجود عدو واضح.

الباحث الاقتصادي والسياسي وليام انكدال مؤلف كتاب "الهيمنة الكاملة – الديمقراطية الديكتاتورية في النظام العالمي الجديد" يقول إن جورج بوش كان "نتاج الحرب الباردة، وهو الذي صقل تركيبة الولايات المتحدة بوصفها دولة الأمن القومي. كان عالمه مكوناً من صورة العدو والتجسس والسرية، إذ كان الناس في كثير من الأحيان يتجاوزون الدستور الامريكي حين يتعلق الأمر بالأمن القومي".

وظن البعض أن المعادلات السياسية في العالم ستختلف كثيراً "وكان بإمكان الغرب الذي تقوده أمريكا المساعدة في تخفيض تصعيد التوازن النووي- توازن الرعب- المرتبط بالحرب الباردة وتحويل الصناعة شرقاً وغرياً إلى مشاريع اقتصادية مدنية لإعادة بناء البنى التحتية المدنية وإصلاح المدن الفقيرة".

لكن الأمور، وكما يعرف الجميع، لم تمض بالشكل الذي ظن الحالمون بالديمقراطية أنها ستسير عليه، إذ كان البنتاغون يمتلك مخططات مختلفة، فهو يسعى إلى "الهيمنة الكاملة" و"جدول أعمال البنتاغون يشمل السيطرة على كل شيء وعلى كل مكان، بما في ذلك أعالي البحار واليابسة والهواء والفضاء، حتى الفضاء الخارجي والفضاء الافتراضي".

وكانت لعبة الديمقراطية من أقوى الأسلحة وأكثرها لمعاناً، أمام العيون، لتحقق أمريكا ما تطمح إليه، فقد كانت "السلاح الفعال والأمضى لزيادة هيمنتها على الأمم الجديدة المنبثقة من الكتلة الشيوعية السابقة في أوروبا". ويوضح مسألة تاريخية مهمة "إن كلمة ديمقراطية، كما كانت ندرك عائلات القلة الإغريقية القديمة، سلاح ذو حدين إذ يمكن التلاعب بها وتوجيهها لتستخدم الغوغاء غضبها واندفاعها ضد خصم سياسي". وفي الواقع فقد كانت الولايات المتحدة تسعى إلى نشر "الديمقراطية الديكتاتورية التي تؤدي إلى الهيمنة الأمريكية المطلقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وكل ذلك تحت السيطرة العسكرية لحلف الناتو".

إن الأفراح التي أطلقتها شعوب ودول الاتحاد السوفييتي السابق، ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا، بعد سقوط الستارة الحديدة التي فرضتها القيادة الشيوعية على تلك الدول، قرابة النصف قرن، سرعان ما بدأت تتبدد كأوهام في فضاء الحقيقة والواقع الذي راحت أمريكا ترسم ملامحه بكل قسوة مع البنك الدولي "فقد فرضت واشنطن وحلفاؤها الغربيون شكلاً من أشكال اقتصاد –علاج الصدمة- على الاقتصادات الاشتراكية السابقة المخططة مركزياً والتابعة للدولة".

وقد تمت السيطرة على تلك البلدان من خلال صندوق النقد الدولي الذي اعتمد العلاج بالصدمة أو "سياسات التكيف الهيكلي" التي وضعت الدول السابقة تحت رحمة الغرب المهيمن بقوة الدولار، ذلك أن هذه السياسة فرضت، في الواقع، آليات السوق الحر خاصة الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية، وكذلك التغيرات الخارجية وتخفيف الحواجز التجارية.

وقد خلق هذا النمط من السياسة الاقتصادية المتوحشة ظروفاً شديدة القسوة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب تلك البلدان، ففي روسيا على سبيل المثال "انتشرت البطالة وتدنت مستويات المعيشة، وكان الأكثر صدمة هو انخفاض متوسط العمر عند الرجال في روسيا -56 سنة- فترك كبار السن دون راتب تقاعدي ودون رعاية صحية كافية في حالات عدة. كما أغلقت المدارس، ومر الإسكان ببؤس شديد. أضف إلى ما سبق انتشار الثمالة وإدمان المخدرات ومرض نقص المناعة –الايدز- بين الشبان الروس".

ويلفت الباحث انكدال إلى مقولة زبغيني بريجنسكي المهمة والخطيرة "إن ما سيحدث لتوزيع القوة على أراضي أوراسيا سيكون له أهمية حاسمة بالنسبة إلى الهيمنة الأمريكية على العالم". ولذلك كان لا بد من السيطرة، أو محاولة السيطرة، على الصين ولكن بأسلوب مختلف قليلاً وبالاعتماد على الديمقراطية التركيبية، وذلك في إطار سلسلة من حروب السيطرة على الموارد والثروات الطبيعية من خلال استراتيجية تحديث الجيش الأمريكي، فقد كشفت وثيقة تعود لعام 2008 "أن هدف الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة هو التمدد والسيطرة على الكون بأسره، وليس الهيمنة على الكرة الأرضية فحسب".

ومن هذا المنطلق يمكن لنا إدراك السعي الحثيث والحميم لتوسيع قواعدها العسكرية في ظل هاجس نووي لا يتوقف عند حدود. وكان من المنطقي أن يطرح الباحث السؤال الصعب: الهيمنة الكاملة أم الجنون الكامل؟ وكان في محاولة مقارباته يعى لكشف الكثير من المعلومات السياسية والاقتصادية الخطيرة.

إن هدف هذا الكتاب كما يصرح مؤلفه بشكل واضح هو "وضع أحداث العقدين الماضيين وأكثر في سياق جيوسياسي وتاريخي أكبر، وإضاءة الزوايا المظلمة في استراتيجية وأعمال البنتاغون والمخاطر الكبرى في المستقبل التي تشكلها هيمنتهم المطلقة!".

----

الكتاب: الهيمنة الكاملة

الكاتب: فريدريك وليام إنكدال

ترجمة: حسن جبور إسبر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،