تُعتبر مشكلة الوجود من الموضوعات التقليدية في تاريخ الفلسفة والتي لا يزال لها دورها الهام في الفلسفة المعاصرة، في حين تُعتبر مشكلة الإنسان من أحدث الموضوعات التي تنبهت إليها الميتافيزيقيا المعاصرة.

لقد انضوى مفهوم الوجود تحت علم ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا. وكما يحدثنا تاريخ الفلسفة، فإن هذا الاسم لم يستعمل إلا عندما صنف آندرو نيقوس الرودوسي كتب أرسطو في القرن الأول ق.م، فوضع الكتاب الذي يبحث في (الفلسفة الأولى) بعد كتاب (الطبيعة). وهكذا جاءت هذه التسمية عرضاً، إلا أنها مطابقة لموضوعها، ولذلك أصبحت تسمية حقيقية راجت في تاريخ الفلسفة منذ القدم حتى اليوم.

وقد عرف أرسطو الفلسفة الأولى بأنها تبحث في (الوجود من حيث هو وجود)، لكن التفكير في الوجود بهذا الشكل الشامل لم يبدأ مع أرسطو فحسب، بل يرجع إلى أيام الفلاسفة الأيونيين، إلا أن أكثر من بحث في الوجود قبل سقراط كان يخلط بينه وبين الطبيعة أو الكون من حيث صورته المادية، والحقيقة يرجع الفضل إلى سقراط وتلميذيه أفلاطون وأرسطو في رفع الوجود إلى أشمل مفهوم وأكثره تجريداً.

وبالعودة إلى تعريف أرسطو، فإنه يعني فيه أن معرفة الوجود تقتضي العودة إلى البحث عن العلل الأولى التي يرجع إليها جميع الموجودات، ولذلك كان علم الميتافيزيقيا برأيه أساساً لجميع العلوم الأخرى، كما أنه يعطي للعقل يقيناً تاماً ويُقربنا من معرفة العلة الأولى وهي الجوهر الإلهي، والذي يسميه أرسطو بالمحرك الأول.

ثم ظهرت كلمة الميتافيزيقيا مجدداً في فلسفة القرون الوسطى، واستعملها ابن رشد، لكن مفهومها قد ضاق عند الفلاسفة المدرسيين (في القرون الوسطى)، واقتصر على معرفة الجوهر الإلهي وعلاقة بقية الموجودات به.

ولقد رأى القديس توما الأكويني أن الميتافيزيقيا تعني دراسة الأشياء الإلهية، وفي نفس الوقت تدرس مبادئ العلوم والعمل الإنساني، حتى أنه دعا الميتافيزيقيا بالطبيعة الشافة، أي كل ما يختفي وراء الطبيعة أو ما يعلو فوقها، وهذا المعنى الذي أعطاه توما الأكويني للميتافيزيقيا جعلها تتحد مع علم اللاهوت لكنها اختلفت من حيث شكل المعرفة.

وإذا ما اتجهنا إلى أصحاب المذهب العقلي اعتباراً من ديكارت إلى مالبرانش وليبنتز وولف، لوجدنا أن هذا الاتجاه كان عاماً نحو تنزيه الميتافيزيقيا عن البحث فيما هو حسي أو مكاني، والارتفاع بها إلى الإلهي والغيبي، مع ملاحظة الانتباه إلى قيمة التفكير العقلي المجرد، والادعاء بقدرة العقل على معرفة الموضوعات ما فوق الحسية، والإتيان بالبراهين المنطقية.

وحتى القرن الثامن عشر كان الميتافيزيقيون يرون في الميتافيزيقيا أعلى درجات المعرفة المطلقة التي تتوخى الوصول إلى الجوهر الداخلي للموجودات دون الاهتمام بمظاهرها الحسية. وعندما جاء كانط أُصيب مفهوم الميتافيزيقيا بتحول يُعتبر ظاهرة ثورية في تاريخ الفلسفة الحديثة.

ولقد شغل المثاليون بعد كانط وهم فيخته وشللينغ وهيغل في إعادة الوحدة بين الظاهرة والشيء ذاته على أساس التوحيد بين العقل المطلق والوجود المطلق، أو بين المعرفة والوجود.

مشكلة الوجود

لقد أوجدت الفلسفة المعاصرة نفسها أمام تراث ضخم مؤلف من عدد من المفاهيم حول فكرة الوجود، وكان لفصل أرسطو منذ القديم بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل أثر دائم على التفكير الفلسفي، كما اعتاد فلاسفة القرون الوسطى أن يفصلوا بين الجوهر أو الماهية والعرض في الوجود نفسه، ثم أعطي لهذا الفصل فيما بعد أسماء أخرى، كفكرة (الظاهرة) و(الشيء ذاته) منذ أيام كانط، وقد واجهت الفلسفة إحراجاً تلقاء هذا الفصل النهائي بين حدي الوجود.

إلا أن المذاهب الحيوية اعتباراً من نيتشه إلى غوبو إلى برغسون سعت إلى استبدال فكرة الوجود بمصطلح أكثر تشخيصاً وواقعية وهو مفهوم الحياة، ولا شك أن مفهوم الحياة لن يحل المشكلة نهائياً، إنما يدور حولها ليواجه ذات القضايا التقليدية في الفلسفة حول أسبقية الماهية على الوجود أو العكس، غير أن ظهور الفلسفة الفنومينولوجية على يد إدموند هوسرل قد أعطى لهذه المشكلة وجهة جديدة سوف تفتح طريقاً واسعاً أمام الفلسفات المعاصرة كالوجودية.

التجربة الفلسفية

ولكلمة (تجربة) استعمالات كثيرة منها التجربة الأخلاقية والجمالية والأدبية والعقائدية والاجتماعية، كذلك التجربة الميتافيزيقية، ولهذا قسم لالاند في معجمه الفلسفي معنى التجربة إلى ثلاث فئات، فأولاً هناك تجربة بمعناها العام، ويدل على معاناة شيء ما، ليس كوسيلة لكن كظاهرة تغني الفكر وتوسعه، وثانياً هناك معنى كلمة تجربة الذي يدل على اكتساب أو تعلم جملة من الخبرات في الميدان العملي، أو تحصيل خبرات ذاتية في مجال الحياة، وثالثاً هناك المعنى المستعمل في مجال نظرية المعرفة، ويدل على ممارسة الفعاليات العقلية التي تنشئ للذهن معارف ذات قيمة ليس بالنسبة إلى طبيعة الفكر المدرك الخالص لوحده، لكن بارتباطه مع الموضوع.

وكلمة التجربة الفلسفية لا تعني شيئاً غير الفلسفة ذاتها، فهي خلاصة المواقف والحلول التي اتخذتها المذاهب والعقول خلال مئات من السنين تلقاء أشمل سؤال طرحه الإنسان وهو (لماذا يسأل الإنسان)؟، أو (لماذا كان السؤال)؟، فالفلسفة إذاً هي البحث عن اليقين أو المعرفة في شكلها الثابت، والتجربة الفلسفية ليست في حقيقتها إلا تجربة هذا البحث عن اليقين.

ولقد ربط هيدغر وجود الإنسان بتساؤله حول هذا الوجود، وكأن وجود الإنسان لا يبلغ مشروعيته إلا إذا وُضع في مستوى المشكلة أو التجربة، وصاحبه توتر الفكر وقلقه، ولقد جعل هيدغر التساؤل حول وجود الإنسان في علاقاته المتناقضة مع حدود الموجودات الأخرى في العالم نافذة يطل منها على الوجود بمعناه الشامل أو الكينونة.

ولا يُقر هيدغر بالحياد بالنسبة إلى معرفة الوجود الصميم، فالعلم الذي يتطلب مثل هذا الحياد لا يتعدى مجاله تحديد علاقات الموجودات المتغيرة ومعرفة ثوابتها ضمن القانون الحتمي، لكن الإنسان حيث هو إنسان يريد أن يهتم بالدرجة الأولى بوجود الموجودات أو الظواهر نفسها لأن لديه أكثر من موقف المدرك مما هو مدرك. والواقع فإن هذا الموقف يتصف بالخارجية والبرود والتفرج غير المنفعل، بينما يكون موقف الكف الوجودي علاقة الصميم هذه التي تتعمق مجاورة للنزوع الظامئ عند الإنسان لأن يوجد أكثر وأشد ما يطيق من الوجود.

----

الكتاب: الحرية والوجود

الكاتب: مطاع الصفدي

الناشر: دار مكتبة الحياة