حران هي مدينة قديمة طيبة المناخ وافرة المياه، تقع على مفترق الطرق التجارية في العالم القديم، وقد جاء اسمها في النقوش المسمارية "حرانو" أي الطريق، ووصف الهمداني أهلها بأنهم أصحاب أدب وحكمة وعلم بالنجوم وخبرة بالعلوم التعليمية وأصحاب رصد وقياس للكواكب ولهم ذكاء وفطنة.

ولطالما جاء ذكر حران في المصادر العربية مزيجاً من التاريخ والأسطورة، حيث قال الطبري إن نوحاً خطها عند انقضاء الطوفان وخطّ سورها بنفسه، وفي مكان آخر من تاريخه قال إن هاران هو الذي بنى مدينة حران وإليه نُسبت، وقد عرّف ياقوت الحموي هاران بأنه أخو إبراهيم الخليل عليه السلام، وإنها كانت منازل الصابئة الحرانية، أما ابن العبري فقد قال إن الذي بناها هو "قينان" على اسم هاران ابنه.

والصابئة في اللغة العربية هم الخارجون من دين إلى دين، أما في الآرامية (صبا) أو (صبع) وتعني الاغتسال بالماء الجاري، وعُرف صابئة العراق بالمغتسلة. كما كان السريان يطلقون على صابئة حران والمندائية معاً أسماء مختلفة (الوثنيون، الكلدانيون أو عبدة الكواكب).

وصابئة حران هم قوم من أصول يونانية وآرامية عاشوا في حران وما حولها، وكانوا يتكلمون اللغة الآرامية ويتبعون ديانة نجومية سرية لها أسرارها وطقوسها، يمارسونها في معابدهم أو في الخلاء حول العيون والمياه الجارية، كذلك لهم لباسهم الخاص بهم.

وقد تكلمت رسائل إخوان الصفا عن هذه الطائفة فقالوا: إن آخر ما سمعنا عمن ادعى علوم الطلمسات وأفعالها ممن نقلت إلينا أخبارهم وبلغنا آثارهم اليونانيون وهؤلاء لهم عند الناس أسماء مختلفة فمنها (الصابئون والحرانيون والحنوفون)، وأخذوا أصول علومهم عن السريان وعن المصريين.

التعلم والفلسفة والدين

يزعم صابئة حران أن الكون إنما هو متعلق بالباري تعالى تعلق المعلول بعلته، وأن العالم الأرضي تتم أموره بأشياء إحداها المادة القابلة للمزاج والتأليف (العناصر الأربعة)، والثاني النفوس المحركة والساكنة في أشخاصه، والثالث تحريك العالم السماوي (الأفلاك) للعناصر الأربعة المتولدة منها، والرابع حفظ الإله الأعظم سبحانه وتعالى لقوى جميع الموجودات وإمدادها بالعون لها. كما زعموا أن الكواكب الثابتة مقسومة على الكواكب السيارة ممتزجة من قواها ومعينة لها على أفعالها، وأن الفلك التاسع المماس لفلك الكواكب الثابتة هو المنتهي لفلك البروج مصور بصورة تخصه، وكل درجة من درجاته تنقسم إلى قسمين أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب.

ولقد كانت حران في مطلع القرن الثامن الميلادي مجتمعاً متعدد الأعراق والديانات، تعيش في ظل ثقافة عربية وإسلامية، ولم تعد داراً أو عشاً للوثنية كما دعاها أهل الرها، بل أصبحت مركزاً لثقافات متعددة (العربية والآرامية والحرانية).

وفيها كانت الحرف والمهن العلمية واليدوية تنتقل بالوراثة والتقليد، مما جعل للأسرة دوراً هاماً في تنشئة الأطفال وتكوين اتجاهاتهم الفكرية، كذلك كان للمعبد دور هام في حياة الناس.

وعند الصابئة الحرانية كان اختيار المهنة متروك لاختيار الأسرة، وأحياناً للكهنة عندما يحملون الصبي إلى المعبد ويدخلونه إلى هيكل الصنائع ليعرضوا عليه صور الكواكب، فيتقدم الطفل لاختيار الصورة التي يرغب فيها، فيقدمون لتلك الصورة القرابين ويسلمون الصبي لمعلم الصنعة. أما الدراسة فكانت تتم إما داخل المعبد أو خارجه ذلك حسب درجة التعليم.

وكل ما يُذكر للصابئة أو الحرانية من أقوال وأفكار هي لثابت بن قره الحراني حصراً، وهو الذي أخرج كتبهم وتعاليمهم من دور السر إلى العلن.

ولقد كان ثابت بن قره يعتقد بمذهب الأفلاطونية المحدثة، ويرى الصانع المعبود واحداً وكثيراً، كما نشر صابئة حران نظرية الفيض الإلهي التي جاءت بها الأفلاطونية المحدثة، لكن الحرانية نسبوها إلى نبييهم هرمس المثلث الحكمة وإلى فيثاغورس الحكيم وكلاهما من أنبيائهم الصالحين.

كذلك اعتمدت الحرانية على مجموعة من الكتب السرية منها كتاب العلل أو سر الخليقة وكتاب الخواص، وكانوا يتداولونها سراً وهي من كنوزهم الهامة.

كما اعتبرت الديانة الحرانية النفس الإنسانية قوة خالدة غير متجسدة قارة على أن توجد في انفصام تام واستقلال عن الجسد في عالم آخر.

----

الكتاب: التأثير الآرامي في الفكر العربي

الكاتب: محمد عبد الحميد الحمد

الناشر: دار الطليعة الجديدة، دمشق