لم يكن المفكر الراحل عارف النكدي ذاك المصلح الاجتماعي والقانوني فحسب، بل تجاوز ذلك ليقتحم عالم اللغة ويصبح مجمعياً ولغوياً مميزاً، بحيث حجز مكانة مرموقة له في الذاكرة الإبداعية والثقافية والاجتماعية الإنسانية.

يشير الكاتب محمد طربيه في كتابه "عارف النكدي مجمعياً" أن الناس في دمشق عامتهم وخاصتهم عرفوا عارف النكدي في مناصب قضائية مختلفة، معاوناً للمدعي العام لدى محكمة استئناف دمشق، ومفتشاً في العدلية ومفتشاً عاماً للقضاء العام، كما عرفوه مدرساً لمادة علم الاجتماع والقانون الجزائي في المعهد العربي للحقوق منذ إنشائه، ومديراً للمعرض السوري 1936، وصحفياً وطنياً متميزاً من خلال إصداره صحيفتي "الأيام" ثم "اليوم" بين 1931- 1936 وفي محافظة السويداء عرف إدارياً ناجحاً وذلك من خلال توليه منصب محافظ السويداء 1947-1949، وكان مصلحاً اجتماعياً، ومؤسساً وراعياً لأهم جمعية خيرية في المحافظة وهي "بيت اليتيم" والتي اتسعت خدماتها مع الزمن وصار اسمها جمعية الرعاية الاجتماعية.

لكن النكدي ككل الرجال الكبار تحفل حياته بأوجه مختلفة من النشاط وبضروب متنوعة من الإبداع، منها ما هو معروف ومنها ما هو غير معروف، وكانت إنجازات عارف النكدي المعروفة تتمثل في تلك المؤسسات التي بناها كالمدارس ودور الأوقاف ومؤسسات بيت اليتيم في سورية ولبنان. وفي ما يتناقله الناس عنه من مواقف حقوقية نزيهة ومآثر وطنية واجتماعية جريئة من خلال المناصب التي أسندت إليه والمهام التي تولاها، فإن ثمة جوانب من نشاطه وإبداعه غير معروفة إلا في نطاق ضيق محدود، لأنها مدفونة في بطون الكتب وعبر صفحات الأوراق سواء منها كتاباته في صحيفتي "الأيام" و"اليوم" اللتين أصدرهما مع بعض أعلام الجهاد الوطني، وكتبه التي لا تزال مخطوطة وهي بالتأكيد ليست قليلة كماً ونوعاً، بل على جانب كبير من الأهمية، وكذلك مقالات ومحاضرات في مجلة المجمع العلمي العربي الذي عرف فيما بعد بمجمع اللغة العربية، حيث داوم على الكتابة فيها مع بعض الانقطاع لأسباب قاهرة منذ المجلد الرابع عام 1924 حتى المجلد الخمسين عام 1975 وهي سنة وفاته.

يؤكد محمد طربيه على أهمية المقالات والمحاضرات، ليس فقط في سياق سيرة حياة عارف النكدي وإنجازاته، بل في سياق التطور العام للمنطقة العربية سياسياً وثقافياً وحقوقياً وأدبياً ولغوياً، وخشية أن تمتد يد النسيان إليها فيغمرها طوفان الزمن، فكان لا بد من جمع تلك المقالات والمحاضرات، وتحقيقها بشرح الغامض من كلماتها وعباراتها، وإصدارها.

مساهمات النكدي

تتناول مساهمة النكدي في مجلة المجمع تعريفاً ونقداً للكتب والمجلات الصادرة في وقتها وردوداً على بعض الكتاب ومناقشتهم فيما كتبوه، ليس على مستوى سورية فحسب بل على مستوى ما يصدر في العالمين العربي والإسلامي آنذاك، والكتب المترجمة من العربية وإليها، والمحاضرات التي كان يلقيها النكدي في ردهة المجمع والندوات التي كان يشارك فيها في المجمع وفي نقابة المحامين ومؤتمراتهم.

لعل أول ما يلاحظه القارئ على مساهمات النكدي، هو الفروق بين حجوم النصوص التي تحتويها صفحاتها، وربما أيضاً الفروق فيما بينها من حيث الأهمية بين خبر سريع مع تعقيب سريع، وبين محاضرات طويلة قسمت على عدة أعداد من المجلة من مثل "العنصر العربي" و"القضاء اللبناني" و"العربية بين الفصحى والعامية".

ونجد موقفه من اللغة يتسم بشيء من المرونة والاعتدال ويتمثل ذلك في قوله في نهاية محاضرته "العربية بين الفصحى والعامية" من المجلد 44 "إن اللغة لا تعيش في أخبية ضرب عليها بالأسداد ولكنها كائن حي تسير مع الزمن الذي تعيش فيه يحدث لها فتحدث له، وبعد فإنا نريد خطة وسطاً لا تشدد الحريري في درته منع فيها ما يجوز ولا تساهل الحلبي في بحره أجاز فيه ما لا يجوز". ويقول في معرض تعقيبه على معجم "البستان" للعلامة الشيخ عبد الله البستاني: "إن الترتيب والدقة على فائدتهما ليسا كل ما نحتاج إليه في معاجمنا، فهناك المصطلحات الحديثة وتحديد بعض الألفاظ وتوضيح بعض المعاني، وإقرار وجه واحد لألفاظ تكثر فيها اللغات إلى غير ذلك مما أعرض عنه العلامة البستاني في معجمه لأنه من أعمال المجامع العلمية والجماعات اللغوية لا من عمل الفرد، ولا بد من وضع معجم مطول يجمع اللغة كلها".

من جانب آخر فقد دعا النكدي إلى الإكثار من الترجمة إلى اللغة العربية ومنها إلى اللغات الأجنبية مباركاً جهود المبادرين إلى ذلك مع إدراكه لصعوبات الترجمة، حيث يقول: "نعترف أن الألفاظ قل أن تترجم ترجمة تفيد معنى الكلمة المترجمة إفادة جامعة مانعة، بل إن هذه الموافقة قلّ أن تكون بين الاسم والمسمى في اللغة الأصلية نفسها".

وبالرغم من عدم تعاطفه مع الشعر الحديث بل وخصومته معه، فقد استقبل المسرحيات الشعرية ذات الموضوعات التاريخية التي كان يكتبها عدنان مردم بك بالحفاوة والترحيب والثناء معقباً على مسرحية "غادة أفاميا" بقوله: "وقد أطلق الشاعر نفسه من وحدة الوزن وحللها من وحدة القافية وتقيد بالأبحر القصيرة، فجاء شعره موجز الألفاظ بعيداً بجملته عن الزيادة والحشو اللذين يؤتى بهما في كثير من الأحيان ليستقيم الوزن ليس إلا".

قدم النكدي ملاحظات قيمة على كتاب "خطط الشام" بأجزائه الستة لمؤلفه العلامة محمد كرد علي رئيس المجمع تمثل تطبيقات نقدية على كتابة التاريخ، وتدل على عمق ثقافته التاريخية وجرأة موقفه النقدي ممزوجاً بتواضع العلماء الحقيقي الذين يعدون النقد بناء لا هدماً وإضافة لا حذفاً.

أما المجالات الحقوقية والسياسية والاجتماعية، فإن كتاباته فيها تتسم بإيمان عميق لا يحد بالعروبة والإسلام وسعي حثيث لنهضة عربية شاملة قوامها الاستناد إلى التراث والتاريخ المجيد دون إغلاق الأبواب والنوافذ على الغرب.

اتسم موقفه من المستشرقين بالاعتدال والموضوعية دون تعصب ودون انبهار في الوقت نفسه يقول: "لست ممن ينكرون على الفاضلين من المستشرقين فضلهم وإنصافهم وخدمتهم للعربية خدمة جليلة بنشر آثارها ونبش كنوزها، وتدقيق بعضهم تدقيقاً علمياً وعميقاً في تعبيرات العرب والوقوف على أسرار لغتهم وفهم أساليبهم وتراكيبها".

----

اسم الكتاب: عارف النكدي مجمعياً

اسم المؤلف: محمد طربيه

دار النشر: دار دمشق،