في حوادث الطبيعة ووقائعها، ليس ثمة قوى واعية لما تفعل، وإنما قوى عمياء حين تضرب نجدها لا رادَّ لها، خاصة فيما يتعلق بنتائجها الكارثية وتداعياتها السلبية المطلقة، والتي تأتي على مصائر البشر وما أنتجه وعيهم وإرادتهم من منجزات وموارد وبنى مادية.

تأخذ القوى الطبيعية قراراتها بمعزل عن تلك الإرادة الواعية للناس، وبناءً على حسابات تختلف عن حساباتهم، لتعيد ترتيب جغرافيا المكان الطبيعية وتصحيح اختلالها واستعادة التوازن المفقود، مهما تكن النتائج المترتبة فوق الأرض، تاركة للبشر تأمل درس الطبيعة، وفي حالة خوف من المجهول، ففوق كل ذي علم عليم، وما على الناس سوى التعلم في حضرة الطبيعة والعمل على خفض مستوى التأثيرات قدر المستطاع.

وليس من بين الممكن والمستطاع، بطبيعة الحال، أمام صرامة كوارث الطبيعة وحدتها، القدرة على التحكم، أو التنبؤ بمتى وكيف وأين على نحو دقيق صارم ونهائي، رغم كل التطور الهائل الذي بلغته علوم الإنسان الطبيعية والفيزيائية. من هنا نجد أن الكوارث الطبيعية، وخاصة الزلزالية منها، لا تترك للإنسان بعد وقوعها سوى التفكير في إعادة هيكلة بناه وموارده وطريقة عيشه وعلاقاته بناءً على النتائج، بعد استيعاب درس الطبيعة الجديد، وما أكثر الدروس المستفادة عبر تاريخ من العلاقة بين البشر والطبيعة. وأهمها أن الطبيعة حين تقول كلمتها، بغض النظر عن إرادة البشر ووعيهم، إنما تذكرهم من جديد بأن كل محاولاتهم إلى اليوم للسيطرة عليها قابلة لإعادة النظر.

فماذا فعل الزلزال الأخير بالناس؟

إذا كانت هذه الكارثة الطبيعية قد وقعت رغم إرادة البشر وبمعزل عنها، حتى بدت وكأنها لا رادّ لها في قسوتها وتأثيراتها، فإن البشر من جانبهم، وأمام فزعهم وخسائرهم لجؤوا على نحو دراماتيكي إلى قوانين حكمت أصل الاجتماع بين البشر. فالناس اجتماعيين بطبعهم، مهما انطوت عليه حياتهم من تضارب في المصالح والأهواء والإرادات، وأيقظوا أفضل ما فيهم وبينهم، من قواعد ضبط اجتماعي وأخلاقي وديني حكمت علاقاتهم وعملياتهم وسلوكاتهم الاجتماعية، أي لجؤوا إلى منظومة من القيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية، وانتظموا، بعيداً عن الأهواء والإرادات والمصالح في مواجهة عنف الطبيعة وقسوتها.

بطريقة ما يذكرنا هذا الاصطفاف الاجتماعي بأصل الاجتماع بين البشر على الأرض، ففي المشاعة الأولى يوم كانت الطبيعة ضرباً من المجهول بظواهرها وأحداثها وجبروتها، وكانت علوم الإنسان وأدواته ومستوى تفكيره في أدنى مستوى من التطور، ساد عرف قيمي-اجتماعي انتظمت حوله علاقات البشر وعملياتهم وسلوكاتهم الاجتماعية لضمان استمرارية الحياة قوامه: "الجميع من أجل الجميع، والجميع في مواجهة الطبيعة". ولم يكن ممكناً آنذاك أمام عسف الطبيعة وجورها خفض مستوى هذه النزعة الأخلاقية والاجتماعية أو تحاشيها أو القفز فوقها تحت أي ظرف. لقد ربت تلك الظروف لدى الناس أخلاقاً جماعية الطابع، الجماعية في الكسب والجماعية في الدفاع، والجماعية حتى على مستوى الأخلاق الفردية كالشجاعة والإقدام والتضحية وإغاثة الملهوف ومدّ يد العون للآخرين.

وحين تضاربت الأهواء والإرادات والمصالح المادية، تفجرت صنوف استغلال الناس بعضهم بعضاً، ومنها خرجت النزاعات والانتهاكات والصراعات، كما تفاقمت ضروب التعدي بين البشر. بدأت ولم تتوقف أو تخف حدتها مذاك، رغم كل ما أنتجه البشر إلى اليوم من قوانين وتشريعات اجتماعية وأخلاقية وسياسية لاستعادة فردوسهم الأرضي المفقود. فأمام تفشي عدوى استغلال البشر لبعضهم وما تمخض عنه من تعد على الحقوق على نطاق يتسع باستمرار، كل ما أمكن فعله هو تلطيف النتائج المترتبة وتخفيف حدتها، إلى أن بات الوضع القائم كما هو بمثابة قدر لا مفر منه، مثله مثل الطبيعة المعطاة وعملياتها الفيزيائية وتأثيراتها.

فكيف استجاب الناس لعسف الطبيعة الأخير؟

في مواجهة آخر درس للطبيعة، انتظم الناس في فئتين متباينتين؛ الأولى منهما استجابت بلا تردد، أفراداً وجماعات، لاحتياجات الناس لتلبيتها، مهما يكن شأنها، وبعيداً عن أي حسابات تتعلق بالربح والخسارة، وبعيداً عن أي حسابات أخرى، مستندة في ذلك إلى إرثها القيمي الاجتماعي والديني والأخلاقي، وما انطوى عليه من سمات النبل والشجاعة والكرم وإغاثة الملهوف ومدّ يد العون والمساعدة للمحتاجين والمتضررين.

فأمام عسف الطبيعة وجورها وما أنتجته ماكينتها من تصدع في جدار البنى والموارد، وما حصدته من الأرواح بفعل قوانينها الصارمة العمياء وهي تستعيد توازنها المختل، لا وقت للحسابات كبرت أم صغرت. لذلك انتظم الناس، عبر مبادرات إنسانية خلاقة، في مصفوفة اجتماعية وأخلاقية وراء قيم بدت وكأنها أصبحت منسية أو جزء من تراث عفا عليه الزمن تحت ضغط تضارب المصالح والأهواء والإرادات، وقاموا بتفعيلها لتدعيم وترميم بنيتهم الاجتماعية وتماسكهم الاجتماعي، حتى بدا درس الطبيعة المستفاد على هذا الصعيد أن الإنسان ما يزال ذلك الكائن الاجتماعي بطبعه مهما عصفت به وبأقرانه وجماعاته الاجتماعية ضروب المصالح واختلاف الارادات.

لقد نفضت هذه الفئة الاجتماعية، وهي الأضخم بين السكان، الغبار عن منظومة القيم والقواعد الأخلاقية والاجتماعية الناظمة للعلاقات والسلوك الاجتماعي، وقامت بتفعيل آلية عملها رغم حالة الفقر والعوز العام التي تعيش في كنفها معيدة إنتاج أواصر التماسك الاجتماعي.

أما الفئة الثانية من السكان، وهي فئة جماعات الفرص والمصالح، فقد كانت قراءتها ونظرتها مختلفة لدرس الطبيعة الأخير، إذ رأت فيه "فرصة" على طبق من ذهب للتكسب والتربح والاتجار وممارسة صنوف التغول على الناس والمجتمع المنكوب تحت تأثير عامل المصالح للإثراء على حساب آلام الناس وخسائرهم واحتياجاتهم الطارئة. وهذه الفئة عادة هي من تضع يدها على السوق، وهي الأقل عدداً من الفئة الأولى، وتزداد تناقصاً باستمرار ممركز الثروة في أيديها، عبر استنزاف القدرة الشرائية للعدد الضخم من السكان، أي الفئة الأولى. وهي فئة استثمرت ثروتها المتحصلة في الاتجار والتحكم بالأسواق والأسعار عبر تناوب حجب السلع وطرحها مستفيدة من ذلك إلى أبعد حد، فكيف ذلك؟

من المعلوم أن التجارة الداخلية وتجارة التجزئة بشكل خاص تعتمد أساساً على تجارة السلع الغذائية وتوابعها وفروعها ومدخلاتها. وهذه التجارة بالغذاء هي من يغذي استهلاكاً لا ينقطع، كما أنها عماد الأسواق تحت أي ظرف كان، فالناس كل الناس بفقيرهم ومملقهم وغنيهم يستهلكون السلع الغذائية على نحو يومي دون انقطاع، وذلك على عكس تجارة السلع المعمرة. ولذلك مهما فتح سقف الأسعار وخاصة في فترات الأزمات والكوارث، سيقبل الناس على أسواق الغذاء للتبضع كل بحسب مقدرته ولكن على نطاق واسع. وهذا ما أدركته جماعات الفرص والمصالح واستثمرت فيه إلى أبعد الحدود.

على هذا النحو كان "احتكار السلع الغذائية" وحجبها، آلية أثيرة للإثراء الضخم والتربح واستغلال الاحتياجات بلا رحمة. فهو الوسيلة الأكثر كفاءة لمركزة الثروة واستنزاف المداخيل الضعيفة جداً، ولكن لعدد ضخم جداً من السكان الذين سيرتادون الأسواق كل يوم مهما كانت درجة فقرهم وإملاقهم.

----

الدكتور عادل ذياب العلي: أستاذ التغير الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي في جامعتي تشرين ودمشق- باحث في شؤون مستقبل النمو الاقتصادي