يقيم النقد علاقة جدلية مع الإبداع عبر تاريخ الكتابة الشعرية والنثرية، ولكنها علاقة شائكة وشائقة في الوقت ذاته، وذلك بسبب ما أصاب النقد من مشكلات عديدة دفعت الناقدة د. ماجدة حمود في كتابها "علاقة النقد بالإبداع الأدبي" إلى التأكيد على أن النقد بصورة ما "ما زال بعيداً عن أن يكون نشاطاً فكرياً وذوقياً هدفه البناء لا التحطيم، والرقي لا الإسفاف، وذلك عن طريق التحليل والتفسير والتقييم" إضافة إلى هدف آخر يتمثل في "التأسيس لأجناس أدبية جديدة علينا عن طريق التعريف بها والحديث عن نشأتها وتطورها".

ما تجدر الإشارة إليه أن النشاط النقدي ذو طبيعة مركبة من "مجموعة من الثقافات والعلوم: علم النفس، علم اللغة، علم الاجتماع والفلسفة وعلم الجمال. تصقلها دقة في الحس ورهافة في الذوق وعمق في الرؤية"، وذلك كله ليتمكن الناقد من التكيف مع معطيات النص الأدبي وطروحاته بما يناسبه من مناهج وعلوم من دون أن يغفل جماليات النص فيستعين بذائقته الجمالية.

وبطبيعة الحال سيأخذ الناقد دور الوسيط بين العمل الأدبي وبين القارئ "ولكنه ليس وسيطاً محايداً، بل هو وسيط فاعل، إذ بإمكانه ترغيب المستقبل حين يمتدح الأثر الفني ويبرز جمالياته، كما بإمكانه أن ينفره حين يسفه الأثر ويبرز سقطاته".

وفي ميزان النقد نجد أن الموازنة بين الموضوعية بما تقوم عليه من معارف، وبين الذاتية بما تنطوي عليه من ذائقة جمالية خاصة بالنقد، ينبغي أن تكون حاضرة إلى أبعد الحدود، فكلما استطاع الناقد "إقامة توازن بين انفعالاته ووجدانه وبين معارفه والأسس النظرية التي ينطلق منها العمل الفني" يتمكن من أن يهب النص النقدي حيوية وجاذبية.

والعمل الأدبي ينطوي على عناصر ذاتية "انفعالات وعواطف وخيال" وينطوي على عناصر موضوعية تتفاوت بين جنس وآخر، والأثر الأدبي يبدو "على هيئة مسار، أي مجموعة من العلاقات المتحولة التي يقيمها اللسان بين وجدان الكاتب الفريد وبين العالم الخارجي".

ومن هنا ينطلق الكتاب للحديث عن ظاهرة الأدباء النقاد التي عرفها الأدب العربي مبكراً مع فئة من الشعراء الذين أطلق عليهم "عبيد الشعر: كأوس بن حجر وزهير بن أبي سلمى والحطيئة الذين كانوا ينقحون القصيدة حولاً كاملاً". وفي العصر الحديث برزت مدرسة الديوان مع العقاد والمازني، كما ظهر طه حسين وميخائيل نعيمة.

وفي الأدب الغربي بدأت، هذه الظاهرة، مع أريستوفان في مسرحية "الضفادع التي تضمنت نقداً لإسخيلوس ويوربيديس". وتابع هذا الاتجاه بودلير وزولا وفلوبير. وفي القرن العشرين كان لمالرو وفاليري ود.ه. لورانس مساهمات عديدة.

وتشير الناقدة حمود إلى نوعين من الأدباء: الأول يمارس النقد على أعماله فقط، من دون أن يكون له مؤلفات، ونوع آخر منتج للنقد ويمارس النشاط الإبداعي إلى جانب النشاط النقدي. وقد اختارت بعض من أولئك "الأدباء النقاد" ليكونوا موضع هذه الدراسة كابن المعتز، أدونيس، جبرا إبراهيم جبرا، عبد الرحمن منيف، غسان كنفاني، يحيى حقي.

وإذا مضينا إلى التمثيل لما سبق، نجد ابن المعتز في تراثنا الأدبي القديم، خير ممثل لظاهرة النقاد الأدباء في كتابيه "طبقات الشعراء والبديع"، إذ إنه جمع بين الموضوعية والذاتية من دون أن تطغى إحداهما على الأخرى، مغنياً تجربته النقدية بموهبته الشعرية "فساعدت موهبته الشعرية على صقل موهبته النقدية، وأدت إلى استخدام لغة نقدية قادرة على التعبير الدقيق، إذ لم نجده محلقاً في سماء الخيال أو ضائعاً في متاهات اللغة المجازية، وكذلك لم تؤد هذه الموهبة إلى جعله ناقداً تأثرياً تطغى الانفعالية والحماسة على أحكامه في معظم الأحيان". وتؤكد د.حمود أنه يمكن أن نعده أحد الوجوه المشرقة في تراثنا النقدي.

وفي العصر الحديث برزت بعض الأسماء من أصحاب التجربة النقدية والإبداعية في الوقت نفسه، منهم الشاعر والناقد أدونيس الذي قدم عدة كتب في الفضاء النقدي "مقدمة للشعر العربي، زمن الشعر، والثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب –ثلاثة أجزاء وغيرها". إضافة إلى دواوينه الشعرية التي كان لها بصمة جديدة في حيز الحداثة والرؤية الشعرية.

وأدونيس يرى النقد "أكثر من قراءة للنص أو تفسير له، فهو معرفة أو هو ابتكار معرفة جديدة انطلاقاً من النص واستناداً له". إن الناقد، وفق رأيه، يحاول "أن يقرأ النص ذاته ويقدم هذه القراءة باعتبارها ليست إلا احتمالاً نقدياً تقويمياً من احتمالات عديدة". والقراءة النقدية في نظره لا بد أن تكون متعددة لأن النص الشعري متعدد المعاني بالضرورة، كما تشير الباحثة حمود التي تتناول بالبحث أيضاً موقف أدونيس من النقد القديم، والحداثة الشعرية، والغموض الشعري.

والكتاب رحلة غنية وشيقة في الحفر والبحث في تجارب نقدية اقترنت بالحالة الإبداعية، من منطوق وخصوصية كل تجربة تناولها.

----

الكتاب: علاقة النقد بالإبداع الأدبي

الكاتب: د. ماجدة حمود

الناشر: وزارة الثقافة، دمشق،