في كتابه "صرح ومهد الحضارة السورية" يبيّن الكاتب مفيد عرنوق أنه في إحدى كتب العالم "كونشينو" حمل عنوان "تاريخ الحثيين والماتينين" يقول فيه إنه منذ الألف الرابع ق.م بدأت تتسلل إلى سورية عبر جبال "زغروس" أقوام من الرعاة الهندوأوروبيين استيقظتهم خصوبة الأرض السورية وشمسها الدافئة، وكانت لفظة "سوريا" تسبق أسماء ملوكهم. وبعد التفتيش الدقيق تم العثور على قاموس عربي سنسكريتي، وإذ بلفظة "سوريا" موجودة فيه باللغة السنسكريتية ومعناها "الشمس".

منذ الألف العاشر ق.م حتى الألف الثاني منه ارتفع صرح الحضارة السورية التي أعطت للعالم كل علم وفن وفلسفة، حتى قال فيها عالم الآثار الفرنسي أندريه بارو بعد كشف آثار مدينة ماري: "كل إنسان في العالم له وطنان، وطنه الذي يسكنه وسورية".

وقد حدد العلماء العصور التي مرت على الإنسان في سورية بثلاثة عصور وهي (العصر الحجري القديم والوسيط والحديث)، وكم كانت دهشتهم شديدة إذ ثبت لديهم بحسب عرنوق أن السوري القديم انتقل دفعةً واحدة من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري الحديث متجاوزاً الوسيط، حيث أطلقوا على هذه النقلة النوعية صفة "ثورة العصر الحجري الحديث".

عصر البطولات

امتد العصر الحجري الحديث في سورية حتى الألف الرابع ق.م حيث ظهر عصر الفخار الذي يمثل الحضارة السورية الثانية، وقد شكل الفخار آنذاك سلعةً جميلة ومفيدة دخلت على أوسع نطاق في التبادل التجاري داخل سورية وخارجها، وقد استمر هذا الوضع حتى الألف الرابع ق.م في عشية حدوث الطوفان، وبعد انحسار مياهه بحسب دراسات العلماء تجمع الناجون في موقع عُرف فيما بعد بمدينة "كيش" وتفسيرها (التجمع)، وتبع ذلك إنشاء مدن عديدة مثل "أور وأوروك وأومّا وأريدو"، وقد استلم الرجل زمام الأمور دون المرأة، وعُرف هذا العصر بعصر البطولات، وقد ساد الاعتقاد في ذلك الزمن أن صولجانات الملوك أنزلت عليهم من السماء بوساطة الإله "إنليل" والآلهة "عشتار"، كما وُصف بعصر البطولات عصر "أرابا الصالح" وعصر "إيتانا" الذي رأى خلود الإنسان بولده، وعصر "لوجال بندا وأوروكاجينا" أول مصطلح اجتماعي في تاريخ العالم.

بفعل نوعيات أعمال الأبطال الأوائل بدأت ذاكرة الإنسان تعجز عن استيعاب هذه الأعمال، فكان لا بدّ من تدوين مآثرهم، مما حدا الأولين إلى اختراع الكتابة وإعلان الثورة الحضارية الثالثة ألا وهي اختراع الكتابة، ونتيجة ذلك نشأت المدارس السورية في وادي الرافدين وأولها في مدينتي أوروك وشروباك.

وبدءاً من الألف السابع ق.م برع السوريون القدامى بالزراعة سواء في وادي الرافدين أو جنوبي سورية، حيث عثر العلماء على لوح فخاري كان بمثابة دليل زراعي أو تقويم اعتُبر أول أقدم تقويم زراعي عرفته البشرية.

وفي الفلسفة سجل السومريون القدامى أول آراء للإنسان عن أصل الكون وفلسفة الكائنات، كما تدل الأمثال السورية القديمة على عمق المفهوم الإنساني، وتشكل قاسماً مشتركاً بين جميع أبناء الحضارات، كذلك كان السوريون القدامى دقيقي النظر في دراسة الطبيعة البشرية، فهم أسلاف الأنثروبولوجيين الحديثين، وهم أول من أوجد المناظرات، هذا بالإضافة إلى أن أروع ما أتى به السوري القديم في عصر البطولات هو أدب الملاحم كملحمة "جلجامش" وملحمة "أدابا" وغيرهما.

التراثيون الأوائل

تُبيّن التنقيبات الأثرية أن الملك إيتانا ملك كيش حكم نحو 2800 ق.م، وفي عهده توحدت كل مدن سومر المتنافسة إلى حد ما، كما تقول الأساطير إنه كان من المهتمين بفكرة خلود الإنسان، فوجد أن الإنسان يخلد بولده. أيضاً الملك أوروكاجينا الذي اختاره الشعب حاكماً جديداً عليهم، حيث أعاد العدل وأعلن حرية المواطن لأول مرة في تاريخ البشرية، واعتبر انقلابه أول إصلاح اجتماعي في التاريخ. أما الملك جلجامش فتعتبر ملحمته من أروع الملاحم في العالم ولم تصل إلى مستواها حتى ملحمة هوميروس، ومن التراثيين الأوائل من الملوك سرجون ملك أكاد، وحمورابي الملك الأموري، وأسرجدون وسنحاريب من ملوك آشور، ونبوخذ نصر أشهر ملوك الدولة البابلية الأخيرة، وغيرهم.

رواد الفكر السوري الأوائل

يعتبر علماء الغرب أن سورية هي مهد الحضارة العالمية، وأنها أعطت للعالم كل علم وفن وفلسفة، ولقد كانت الحضارة السورية منفتحة على العالم وبخاصة اليونان، ومن اليونان انتقلت إلى كل أصقاع العالم، ومن رواد الفكر السوري الأوائل أوروكاجينا، ويأتي بعده حمورابي الذي يُعتبر من رواد الفكر الحضاري السوري، كما كان أول من تبنى المذهب الانفرادي وله الفضل الأعظم في تثبيته دعماً لوحدة بلاد ما بين النهرين الجغرافية. ومن رواد الفكر السوري أيضاً طاليس أبو الفلسفة ومؤسس الفكر الفلسفي في اليونان، وأنوكسيمندر المولود في بابل، وبيتاغور فينيقي من مدينة صيدا أسس في كروتونا المدينة الفينيقية جنوب إيطاليا مدرسته التي نالت شهرة واسعة وأصبحت أم المدرسة الأفلاطونية، وكذلك زينون الكبير وأبولودور الدمشقي، وغيرهم.

لقد امتاز السوري القديم بنظرته للكون والحياة خاصة بعد أن امتزجت الأقوام مع بعضها البعض، سواء من سكان أصليين أو ممن نزحوا إلى سورية من الجزيرة العربية من أكاديين وآشوريين وكلدان وكنعانيين وآراميين وغيرهم، وهذا المزيج المميز أنشأ الشعب السوري الذي هو جزء مميز من شعوب العالم العربي.

----

الكتاب: صرح ومهد الحضارة السورية

الكاتب: مفيد عرنوق

الناشر: دار علاء الدين، دمشق