أصدر الكاتب والباحث إسماعيل الملحم كتابه التجربة الإبداعية، حمل فيه رؤية في دراسة سيكولوجية الاتصال والإبداع، وجاء ذلك مع انتشار تقنيات الثورة الثالثة ثورة المعلومات، وتسللها في مناح حياتنا من دون معرفة الانعكاسات التي آلت إليها، لكن الباحث أراد أن يدخل بها من منظور علم النفس التربوي وانعكاسها إبداعياً على واقعنا وذلك قبل عقدين ونيف من اليوم، فجاء كتابه "التجربة الإبداعية" رداً على أسئلة مختلفة.

ربما جعل كل عنوان باباً وما تفرع عنه فصلاً من فصول المنهج العلمي، وإذا كان لم يتطرق لذلك بشكل واضح المعالم بالأسلوب والنهج، لكن دوّنه فهرسياً، فهو يبدأ بالإبداع والاتصال، من المبدع الى المتلقي، الإبداع والجنون، القراءة انتاج المعاني، إقفال النص انتهاء المعنى، التذوق والتقدير الجمالي، استشراف التجربة الإبداعية حالات من الاستيطان والملاحظة، من إغواء الحواس إلى كشف الأعماق، الإبداع من العصاب إلى تطهير النفسي.

يرى الكاتب أن ما يجمع هذه الأبحاث ليس ما يمت إلى النقد بقدر ما يحاول الولوج إلى العملية الإبداعية في مجالات فنية متنوعة، إذ تقترب أحياناً من مثال أو حادثة تتعلق بميدان من ميادين العلوم الأساسية يكون القصد توسيع في فضاء الإفصاح عن عمليتي الإبداع والاتصال، وهما العمليتان اللتان تأخذان القسط الكبير من اهتمام الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والسلوكية، كونهما تستأثران في زمننا هذا، زمن التفجر المعرفي، بعمليات التجريب، ويعدهما المهتمون بالقضايا العامة الاجتماعية والسياسية المجال الأهم لمواكبة التغيرات المذهلة في مختلف جوانب المعرفة البشرية.‏

فالفن إنتاجاً وتواصلاً بين ذوات إنسانية هو صمام أمان يقي الشخصية من الهبوط إلى الأشياء. فما كان يسمى تشيؤ البشر صار واقعاً يقرع الأجراس لإنذار من لديه أذنان ليسمع بأن هاوية من التردي الأخلاقي تنزلق نحوها البشرية، فممارسة الفن إنتاجاً وتقبلاً قد تحمي البقية الباقية من إنسان عوالم التكنولوجيا وقيادة منظومات الهيمنة على مستوى المعلومة والسلعة والسيطرة المالية.

الإبداع والاتصال

يؤكد الكاتب على الإبداع والاتصال والعلاقة الرابطة بينهما مبيناً. من وجهة نظر الفيلسوف روجرز: الإبداع هو ميل في الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته. أما ويليامز فيعتبر الإبداع أمر يعزّ وصفه. ويفترض في المبدع أنه يمتلك نوعاً من التفكير المنطلق المتشعب. وبناء على هذه الفرضية فإن العديد من الدراسات ينفي الارتباط العالي بين الإبداع والذكاء كما يمكن أن يظن كثير من الناس الذين يخلطون بين هاتين القدرتين المعرفيتين. ولهذا فإن نتائج روائز الذكاء لا تعطي إجابات مفيدة في هذا الشأن، وبالتالي عمد الكاتب إلى إثبات أن المبدع عامة قلما يلتزم في إجاباته ببنود الرائز، فالإبداع ليس مشروطاً بنسبة الذكاء العالية. كما يقول فرانك بارون عالم النفس الشهير:‏ "ليس شرطاً أن تكون نسبة ذكائك مرتفعة كي تكون ثاقب الحدس. إذ إن الحدس يعتمد على الإحساس والمجاز أكثر من اعتماده على قدرة الاستدلال والقدرة على الفهم اللفظي، وهما مما تعتمده بشكل رئيسي مقاييس الذكاء".

أما عمليات الاتصال‏ فقد لخّصها "لا سويل" بالعبارات التالية:‏ "من يقول؟ ماذا يقول؟ لمن يقول؟ لماذا يقول؟‏".

وهنا يشير الباحث إسماعيل الملحم أن عملية الاتصال ليست بالعملية البسيطة مهما بسطناها، وإنما هي عملية مركّبة ومعقدة. فهي من حيث المبدأ علاقة أو حدث تنطوي أو ينطوي على عناصر، إن صحّ القول، المرسل، الرسالة، المرسل إليه. وأي رسالة تتضمن هدفاً أو ترمي إلى غاية وتحقيق غرض. وهكذا تكون هذه العلاقة مكوّنة من أربعة أركان وليس من ثلاثة، ثم إن ما بين هذه الأركان ليس بالعامل الثابت وإنما هي وما بينها تتحركان في بيئة محددة تمثل الثقافة إحدى سماتها أي أن هذه الأركان تشترك مع بعضها بخصائص معينة أهم سماتها التغيّر وهي ذات طبيعة ديناميكية تؤثر وتتأثر ببعضها في سياق اجتماعي وفي ظروف محددة، أي أنها لا تحدث في فراغ.‏

ويتوقف فهم عملية الاتصال على فهم مادتها أي على فهم الرسالة من حيث محتواها وأهدافها، وهي تتكون من فكرة أو أفكار، أو صورة، وهي تتأثر بطريقة صوغها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فالمرسل هو إنسان أو آلة أو برنامج أو مبرمج، ومن حيث هو كذلك فإن طبيعته تؤثر في الرسالة ذاتها، فإن كان إنساناً محدداً أو قائماً على برنامج ما، وفي عملية الاتصال نميز عمليات أخرى تشكل كل منهما عملية اتصالية تتداخل مع غيرها من العمليات حيناً وتستقل عنها أحياناً، وهي: الاتصال عملية بيولوجية، وسيكولوجية، واجتماعية.

الثابت المتجدد

ما بين تنوع الإبداعي وروائز الأركان ليس بالعامل الثابت، وإنما هي وما بينها تتحركان في بيئة محددة تمثل الثقافة إحدى سماتها، أي أن هذه الأركان تشترك مع بعضها بخصائص معينة أهم سماتها التغيّر وهي ذات طبيعة ديناميكية تؤثر وتتأثر ببعضها في سياق اجتماعي وفي ظروف محددة، أي أنها لا تحدث في فراغ، فهو يشير إلى أن التنوع وإدارة فنه قائمة على التغير فليس للثابت مكان في العلاقة المعرفية الإبداعية المتطورة والمتجددة، ووسائل الاتصال تشكل عامل تحفيز لخلق نتائج جديدة تخدم اللحظة وفق السياق الزمني والمكاني. من هنا تراه ركز على سمات المبدع وعمليات الاتصال والاتصال والإبداع، والإبداع في العلم والفن.

يصر الكاتب على نشوة المبدع الصافية كيف تنتقل إلى المتلقي. وكيف تنبجس من داخل هذا الأخير تلك البهجة، موضحاً ذلك على شكل رؤية استفسارية بحيث يتعامل المبدع مع الأشياء وفق ما تمثله أناه، ومن حيث تبدو مقدرته على إمتاع المتلقي وجذبه نحو موضوع، وقدرته على أن يجعل موضوعه لدى المتلقي الوظيفة نفسها أو قريباً مما يراه هو، فالنوع البشري المنغمس بالأهواء والرغبات المادية يعيده الفن بأية صورة كان إلى صفائه، ويمهد الطريق إلى وحدة الذات مع موضوعها ودخول الجزء في كله.

التطهير النفسي

لعل الوقوف على متابعة التجربة الإبداعية والخوض في غمار بحوث هامة مثل القراءة إنتاج المعاني، إقفال النص انتهاء المعنى، التذوق والتقدير الجمالي، استشراف التجربة الإبداعية، من إغواء الحواس إلى كشف الأعماق، يدفعنا للقول إن الكاتب قد انتزع منا الاعتراف بما أغنى محتوى التجربة الإبداعية بالرؤية الأدبية والعلمية والفنية والنفسية متنقلاً من المبدع الى المتلقي: بأفكار فلسفية في الإبداع والانفتاح على الواقع والناس، المبدع والمتلقي حالات من سوء العلاقة والانسجام، التناغم بين المبدع والمتلقي، في الإبداع عودة الذات إلى موضوعها، الاتصال الإنساني والدوافع، بذور العملية الإبداعية في الفن والأدب، ليصل إلى موضوع الأهم لتكوين استراحة المحارب عند المبدع وهو الإبداع والتطهير النفسي.

إذاً التجربة الإبداعية لدى العلماء والفنانين والأدباء والتقنيين وإن حملت سمات متشابهة، إلا أنها في كل مجال منها لها خصوصيتها التي تتمايز فيها عن غيرها. لكنها جميعاً تعود إلى نقطة واحدة أو مركز واحد في الإنسان، حيث تتمثل الوحدة من خلال الكثرة والتعدد. فثمة ما يربط الكون والإنسان في نظام موحد عام تتخلق داخله نظم فرعية تتداخل فيما بينها وتعود في نهاية المطاف إلى مقرّها الممتد عبر العصور والمسافات.

----

الكتاب: التجربة الإبداعية، دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع

الكاتب: إسماعيل الملحم

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، 2003

1