من الصفحات الملفتة بين دفتي كتاب "فواز الساجر- مسرح توهج ولم ينطفئ" للدكتور "نديم معلا محمد" تلك التي جاءت بعنوان "فواز الساجر: لم يخرج من معطف أحد"، يؤكد المؤلف من خلالها بأن "الساجر" كان يبحث طويلاً عن النص، يرحل مع تفاصيله ويقرأ بمهارة لا نظير لها ما وراء السطور، تسعفه ثقافة متعددة لكنها عميقة، بدا مفكراً، من دون أن يسمح للفكر بأن ينزع خيال الفنان، أو يسطو عليه أو يلجمه، يفرح لكل إضافة، لكل خطوة تفتح نافذة أو باباً على الجديد المتميز.
يسرد المؤلف في كتابه بأنه تعرّف على "الساجر" في بداية السبعينيات بمعهد "غيتس" الحكومي للفنون المسرحية في "موسكو" ويوصفه بأنه كان يلوب عن المعرفة من الفلسفة، إلى الموسيقا، إلى الطب النفسي، إلى الشعر، من دون تعب أو ادعاء بالمعرفة، يبحث عن الثقافة في كل مكان، يقرأ بسرعة، ويلتقط الأفكار بالسرعة نفسها. وبعد التخرج لم ينزلق، كما غيره، نحو النزعة الاستعراضية وإنما دخل جلد الواقع، أمسك بالهموم والأفكار التي رآها تنبت في قريته البعيدة في الشمال، كما في المدينة التي لم تستطع ابتلاع طموحاته واحلامه.
شهادات وآراء
يتضمن الكتاب أيضاً العديد من الشهادات ووثائق حول مسيرة "الساجر"، يعرض من خلالها الكتاب عدد من مقالات منها مقالة للساجر نفسه بمشاركة شريكه في تأسيس المسرح التجريبي الراحل "سعد الله ونوس"، واعتقد إنها مأخوذة من الكتيب المرافق لعرض مسرحيتهما "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" التي عرضت في عام 1977 يتحدثان في القسم الأول من المقالة عن بداية المسرح التجريبي وعرض "يوميات مجنون" وكيفية انتقالهما من النخبوية إلى عرض أقل نخبوية.
وفي هذا المحور أيضاً مقالة للكاتب "بول شاؤول" بعنوان "فواز الساجر والتزام الطليعتين"، يؤكد فيها بأن الساجر لم ينخرط، لا من قريب ولا من بعيد بموجة المسرح التجاري أو الاستهلاكي، وحسب قوله بأنه لا يقصد في ذلك المسرح السائد عند عدد من الفنانين النجوم في سورية وخارجها، وإنما يقصد المسرح الملتزم المباشر الضيق الخطابي السهل، لأن هذا المسرح أيضاً والذي عرفنا منه القليل والكثير، يدخل نطاق المسرح الاستهلاكي، فمسرحية مؤدلجة تقدم خطابية في كلامها وإخراجها، سواء كانت نظيفة في طرحها أو مشوبة، لا تستثنى من المسرح الاستهلاكي أو الإعلامي حسب رأي "شاؤول" طبعاً، ويجد بأن ابتعاد الساجر هذا الشكل من المسرح هو ما جمعه مع سعد الله ونوس ليقدم له أعمالاً حمل فيها نص ونوس إلى عرض مسرحي حي، ليكون محركاً لتقدميتي الشكل والمضمون في المسرح السوري، ومتمرداً على ما يمكن أن يجمده في أطر جاهزة كالبرشتية الببغائية أو سواها، صهر مفاهيم مسرحية ودمغها بهويته، وبإيقاعاته.
اكتشاف المواهب
أما الكاتب بندر عبد الحميد يوصف صديقه فواز الساجر الذي جمعتهما غرفة واحدة طيلة عام كامل بأنه فضّل العمل مع الهواة الموهوبين الذين لم تفسدهم التقاليد الموروثة اليابسة، ليبدو سباقاً إلى اكتشاف المواهب الأصيلة الجديدة وأبرزها، منذ أعماله الأولى في المسرح الجامعي إلى عمله في المعهد العالي للفنون المسرحية كأستاذ وعضو في لجنة القبول، ولم يقف في ثقافته عند حد، يقرأ في كل الفنون والآداب والفكر والعلوم، ولكن هاجسه الأول همه الكبير، العرض المسرحي، في أي مسرح، في مسرح الهواة، في المسرح التجريبي، في المسرح الملحمي، في المسرح العربي، في مسرح الأمم.
وشهادة أخرى يعرضها الكتاب هي للمخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي، والتي تناولها تحت عنوان "أحلام ما بعد البروفة"، ويرى بأن أحد أهم أسباب نجاح بعض تجارب المخرجين الطليعيين العرب هو استبسالهم الدائم وحصافتهم القوية ضد التجريب، وأن طاقتهم التجريبية الدينامية منحتهم استعدادات لمعاودة المخاض المستمر. ويجد بأن "فواز الساجر" واحد من هؤلاء المجربين في قوتهم وشدة بأسهم ضد كل ما هو معرقل للإبداع، ويتحدث عن كيفية تعامله مع تدريبات العرض الذي تعدى حدود التعب.
سكان الكهف
أعطى الدكتور معلا في كتابه مساحة لابأس بها لعرض "سكان الكهف" وهو الأخير في مسيرة فواز الساجر، ويعتقد بأنه وجد ضالته في هذا النص الحافل بالمواقف الإنسانية، ثري بالمشاعر النبيلة، يختلط فيه العادي بغير المألوف والبسيط بالمتشعب المعقد ووهج الواقع بشفافية الحلم والماضي بالحاضر، يبني تفسيره في هذا النص على تعريف للمسرح، ويجد فيه بأن الحب هو المدخل، أو بعبارة أخرى، المفتاح للعرض، به يحيل وحشة المكان البارد المهجور، إلى فضاء يمكن العيش فيه.
ويرى بأن المخرج عزف على وتر شاعري رقيق، ركز مهارته كلها على نقل التماوج الداخلي للمشاعر، عبر حركات فيها الكثير من التفاصيل لكنها مدروسة بدقة وعناية، فكانت الكلمة تخرج بعذوبة، يحولها النطق شعراً وإن كانت بعيدة عن الشعر، ثمة حب للناس يضيق به عالم الشخصية، وتالياً هو إطلاق الحب من الساجر وطاقمه من القيود التي تفرضها الحواجز الاجتماعية، من دون تهويل في إبراز المشاعر أو مبالغة قد تقود إلى الميلودراما.
مسيرة قصيرة حافلة
يشير الكتاب إلى السيرة الذاتية للمخرج فواز الساجر ويدون بأنه ولد عام 1948 في إحدى قرى منطقة منبج- حلب وكان طالباً في كلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية، قبل أن يوفد من قبل وزارة الثقافة عام 1966 إلى موسكو لدراسة الإخراج في معهد "غيتس"، وهي كلية حكومية خاصة للإخراج حيث درس على يد الفنان يوري زافادسكي تلميذ الأستاذ المعروف في عالم الفن ستانسلافسكي، وتخرج من المعهد بعد ست سنوات، ليعود إلى حلب ويعمل مع المسرح الجامعي، بدأ شراكته مع الراحل سعد الله ونوس عام 1977 وأسسا معاً المسرح التجريبي ليقدما العديد من الأعمال، ومن ثم أوفد إلى اليابان لمدة ستة أشهر للإطلاع على تجارب هذا البلد، أخرج العديد من الأعمال لغاية عام 1988 منها "رسول من قرية تميرة، يوميات مجنون، رحلة حنظلة، ضربة شمس، حكاية صديقنا بانشو، الرجل الذي صار كلباً، سهرة مع أبي خليل القباني"، كما سافر إلى موسكو عام 1983 لدراسة الدكتوراه وأطروحته كانت حول إشكالية تدريب الممثل العربي على ضوء منهج ستانيسلافسكي، كما ساهم في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق الذي عمل فيه مدرساً لمادة التمثيل، توفي في شهر أيار عام 1988 عن عمر ناهز أربعين عاماً فقط، قدم من خلالها عروض بقيت في الذاكرة.
عموماً يحاول الكتاب رسم صورة للفنان عاش حياة قصيرة لكنها غنية وحافلة، فنان ترك بصماته على المسرح السوري وطبع أكثر مراحله حيوية، وشكّل علامة مضيئة في السبعينيات والثمانينيات على خارطته، وارتبط اسمه بالتجديد والكشف في مسرح بلده.
----
الكتاب: فواز الساجر مسرح توهج ولم ينطفئ