أثار التصوف "العربي" جدلاً شديداً ومتواصلاً منذ بداية ظهوره كتيار ديني وفلسفي، وطريقة تفكير جديدة ضمن مجتمع له ضوابطه الناظمة فكرياً واجتماعياً وسياسياً، وقد لقي عنتاً شديداً من "الجمهور"، وربما لقي مثل هذا العنت الفكري بسبب جهل البعض لكينونة هذه الحركة ومبتغاها لأنها تميزت "بالفرادة والخصوصية سواء على مستوى الأداة – اللغة – لصعوبة دراسة النص الصوفي دون امتلاك خزين لغوي قادر على التعامل مع المفردات الصوفية برموزها ومقاصدها". إضافة إلى الإشكاليات التي رافقت الخطاب الصوفي في الدين والسياسة والمجتمع كما أشار د.سهيل عروسي في كتابه "التصوف بين الفقه والأيديولوجيا".

ينطلق الخطاب الصوفي من حقيقتين أساسيتين "وحدانية الخالق – تعدد الخلق، وحدة الدين – تعدد الشرائع". ولذلك ذهب محيي الدين ابن عربي إلى القول بأن كل الاعتقادات الدينية صحيحة "عقد الخلائق في الغله عقائدا... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه".

وإذا كان د. حسين مروة قد رأى أن الصوفية في الجوهر "فكر في الإسلام لا خارجه، وفكر يتجه إلى الحفاظ على التوازن بين جناحي الفكر الإسلامي الميتافيزيقي والواقعي"، فإن الشاعر والناقد أدونيس قد ذهب إلى أن هذه النزعة هي "أحد تياري الحداثة التي بدأت سياسياً بتأسيس الدولة الأموية وفكرياً بحركة التأويل".

ويشير المؤلف إلى أن الآراء تعددت وتباينت في تعريف هذه الظاهرة أو ماهيتها؛ حيث يرى حسين مروة أن أصول التصوف تعود إلى المؤثرات الخارجية "المسيحية والزرادشتية والهندية، أو الغنوصية القديمة أو الأفلاطونية المحدثة". أما على مستوى علم النفس "نجد أن علماء النفس البرجوازيين يرون أن التصوف صنف من المرض النفسي ولا شيء غير ذلك". في حين ينكر أصحاب المذاهب التجريبية والعقلية الظاهرة بدعوى أنها لا تخضع لمعايير المنطق العقلي وأحكامه. فيما يشير المؤلف إلى أن التصوف ظاهرة مرتيطة بنمط من العيش والإنتاج والعلاقات، ولا تفهم بمعزل عن ظواهر المجتمع الأخرى.

وفي الصوفية كل شيء رمز لكل شيء، وقد يكون الشيء رمزاً لنقيضه "الحياة والموت". وهناك ثلاثة أنواع من الرموز: الذهني والحسي والمجازي، ومن أهم تلك الرموز في العالم الفكري للمتصوفة "النور، المرأة، الطير، الماء، المعراج، الخمر". ويلفت الباحث إلى أن "استكناه المعنى الأعمق للصوفية أن كل اتجاه نحو الله هو في نظر الباحثين في هذا الموضوع تصوف، لأن التصوف هو الارتباط الكلي بالله روحياً والتخلي عن الارتباط بالجسد".

والارتباط بالله يضعنا أمام أولى قضايا التصوف الإسلامي وهي "المعرفة"، والموضوع الرئيسي للفكر العربي بكل تجلياته "علم الكلام، فلسفة، تصوف، فقه" هو الله وهو المرتكز الأول للمعرفة، والثاني وحدانية الله، والثالث "ماهيته"، وليس في متناول الإنسان إدراكها، وتشكل تلك العناصر أرضية "المعرفة".

والقضية الثانية هي "الحب"؛ إذ يشكل أولى درجات الارتقاء الصوفي نحو معرفة الله والاتحاد به، وقد شغل المتصوفة بمحاولة الإجابة عن السؤال "أيهما أسبق الحب أم المعرفة؟ وهل تنشأ المعرفة عن الحب أم أن الحب ينشأ عن المعرفة؟". وقد تباينت الإجابة على ذلك.

والثالثة تتعلق بمفهوم "الكمال" الذي يرتبط عندهم بشكل رئيسي بالإنسان "فالإنسان الكامل هو صورة الرحمة القادمة من السماء. وقضية الكمال في الفكر الصوفي قضية ذات طابع فلسفي أسطوري".

والجدل هو القضية الرابعة باعتباره طبيعة الوجود البشري الذي هو مجموعة من الثنائيات المتناقضة، وهي موجودة في الطبيعة والمجتمع والسياسة، الله – الإنسان، روح – جسد، العقل – القلب.

وفي إطلالته على أصحاب المذاهب الكبرى في الصوفية يضيء الباحث على بعض منهم، فالسهروردي صاحب نظرية الإشراق شهدت حياته دراما مأسوية نظراً لاتهامه بانحلال العقيدة. والحكمة المشرقية عنده "يجب أن تكون إشراقية أي حدسية حضورية وليست استدلالية بحثية، إنها الحكمة العقلية التي ما زال أئمة الهند وفارس ومصر وقدماء اليونان يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم وهي الخميرة التي انتقلت، وفق السهروردي، إلى الحلاج والبسطامي والتستري".

أما ابن عربي فقد قدم نظرية "وحدة الوجود" التي يمكن تكثيف جوهرها في النقاط التالية "الإله والطبيعة شيء واحد، الموجودات كلها تجليات للغله، وجود الإله هو عين وجود العالم، ليس هناك ثنائية خالق ومخلوق.."، ولكن وحدة الوجود هذه، كما يراها حسين مروة، ليست وحدة وجود مادية لكنها وحدة وجود مثالية أو روحية تقرر وجود حقيقة عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات وتعبير وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل.

فيما تذهب صوفية الحلاج إلى مفهوم "الحلول" وقد طرح مجموعة من الآراء الجريئة "فقد كانت حياته ريادة، من رفضه التقليد إلى قوله بوحدة الأديان إلى دوره الإصلاحي في الحياة السياسية ودفاعه عن الفقراء والمظلومين".

كما يلقي الباحث قبسات من الضوء على المعاناة التاريخية للتجربة الصوفية وأصحابها سواء بشكلها الفكري أو المادي الذي دفع البعض منهم ثمنه غالياً.

----

الكتاب: التصوف بين الفقه والأيديولوجيا

الكاتب: د . سهيل عروسي

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2015