السعادة عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ليست حالة واقعية مثالية وإنما مثالية في الخيال، فهي القيمة الأخلاقية الوحيدة التي يطمح لاكتسابها كل الناس رغم اختلاف ميولهم وانتماءاتهم، إن السعادة هي ما يتحقق في انسجام مع أمنياتنا ورغباتنا، فهي حالة إرضاء وإشباع للنوازع تتراوح بين النسبية والإطلاقية بحيث قد تنشد إلى الفرح واللذة والبهجة مشاعر وقتية وبين الغبطة كحالة مثالية لأهل الحكمة.

يعرف كانط السعادة بأنها حالة كائن عاقل تجري كل الأمور طيلة حياته وفقاً لمبتغاه وإرادته، وهذا يعني أن السعادة تفترض توافقاً بين نظام الطبيعة وبين رغبات الإنسان والقانون الأخلاقي. إلا أن الإنسان ليس خالقاً للطبيعة، فليس في مقدوره أن يجعل الطبيعة منسجمة مع رغباته عندما يتقيد بالقانون الأخلاقي. وما دام هذا الانسجام ضرورياً لتحقيق الخير الأعظم أي لتحقيق اجتماع السعادة والفضيلة، فإن الخالق للكون هو الذي يدعى الله، وهو الوحيد القادر على تحقيق السعادة على قدر الفضيلة، وهو الذي يربط سعادة الإنسان بمدى خلقيته، وذلك في العالم العلوي، بيد أن الخلقية لا تتوقف على فكرة السعادة، بل السعادة هي ما يناله الإنسان عندما يكون جديراً بها.

حاول كانط الوصول إلى أنّ الهدف من القوانين هو توفير السعادة، والسعادة حسب رأيه مفهوم فلسفي يحمل عدة دلالات؛ حيث اعتبر أن جميع العناصر التي تتكون منها فكرة السعادة تجريبية، أي تستمد من التجربة، وأن فكرة السعادة تلازمها بالضرورة فكرة كل مطلق وقدر أعظم من الإحساس بالهناء في حالتي الراهنة والمستقبلية. إذاً ماهي السعادة في نظر كانط؟ وكيف يتم تحقيق السعادة للفرد أو للإنسان؟ فمن وجهة نظر كانط يتم تحقيق السعادة عن طريق تطبيق القوانين، على جميع الكائنات العاقلة، ذلك الذي يجعلهم يحكمون دائماً على أفعالهم بمقتضى مسلمات من شأنها أن يكون في استطاعتهم أن يريدوا لها أن تقوم مقام القوانين العامة، فالقانون لا بد له أن يكون مرتبطاً على نحو قبلي خالص بتصور إرادة كائن عاقل.

إن التصدي لكل أطروحات فلسفات اللذة أو السعادة أي تلك التي تعتبر أن البحث عن السعادة يمكن أن يكون مبدأ سلوكنا، أن نجعل من السعادة موضوعاً للمعرفة، ويبرر بإسهاب كيف أن السعادة ليست مثلاً أعلى للعقل، وبالتالي هي ممتنعة عن المطلب الكلي.

وضح كانط أن السعادة مبنية على عناصر حسية وخيرية، ففي الواقع هناك سعادات تبعاً لتعدد المنافع والخيرات أي تبعاً لما يتصوره كل فرد مشبعاً لرغبته الخاصة. بناءً على ذلك قد يرى البعض السعادة في نيل المناصب والبعض في المال وآخرون في الصحة وآخرون في العلم، وهذا يعني أن عناصر مفهوم السعادة ستتغير بحسب ما يراه كل فرد مرضياً له.

ظل السؤال الفلسفي عن السعادة يعاني من نقيصة عميقة اكتشفها كانط في كتاب "نقد العقل العمليّ" بين الذين يعتقدون بأنّ السعادة تكمن في اللذّات كما يذهب إلى ذلك أبيقور، والذين يعتقدون بأنّ السعادة تكمن في الفضيلة؛ أي الفضيلة العقليّة -تحديداً- فالتقليد الأفلاطوني الأرسطي الذي يجعل من الفيلسوف أكثر الناس قدرة على تحصيل السعادة، هو تقليد أخذه عن اليونان الفارابي وابن سينا لكن بأشكال مغايرة وفي أفق ثقافة مختلفة.

يتأسس المشروع الأخلاقي عند كانط على نوع من الريبة المفروضة تجاه كل غرضية قد تمثل اغتراباً للإرادة، كما شكل هاجس البحث عن معايير أخلاقية ملازمة لإرادة البشر، ويمكن للجميع تبنيها. إن جوهر أطروحة كانط في مسألة العلاقة بين الفضيلة والسعادة، ذلك أن الكانطية سعت إلى تأسيس عالم من دون عنف ولا صراع، وهو الأمر الذي يبدو مستحيلاً دون تقرير سيادة الفضيلة على السعادة.

لكن ورغم اتفاق الجميع في "البحث عن السعادة"، فإنهم يختلفون في البعد الدلالي لها إلى درجة يمكن معها القول إن هناك أشكالاً من السعادة بقدر ما هنالك من أفراد، إذ ترى أغلبية الناس أنها تتعلق بأمور سهلة وواضحة مثل اللذة والثروة والمجد والشرف، ومع ذلك فهم يختلفون فيما بينهم على أيها أحق باسم السعادة، بل إن الشخص الواحد قد يرى السعادة في الصحة حينما ينزل به المرض، ثم يراها في المال حين يكون فقيراً معدماً، فإن كل إنسان إذاً يريد أن يكون سعيداً.

ما جاء به كانط هو ثورة كوبرنيكية في عالم الفلسفة، فلا يمكن فهم الفلسفة الحديثة إلا بالرجوع إلى كانط، ولا يمكن للفلسفات أن تدور إلا في الفلك الكانطي، مستمدة شعاعها وديمومتها من هذا اللهيب المتقد في الفضاء الواسع.

----

المراجع

[1] إيمانويل كانط: نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

[2] نصوص فلسفية مختارة ومترجمة، محمد بهاوي، أفريقيا الشرق، تونس.

[3] إيمانويل كانط، أسس ميتافيزيقيا الأخلاق، عبد الغفار مكاوي، مؤسسة هنداوي، القاهرة.