يفتتح أرسطو تعريفه للدهشة بأنها أصل الفلسفة، وتظهر في كتابات نيتشه باعتبارها بداية لكل تفكير، وهي أيضاً أساس لقلب القيم وإعادة بنائها من جديد. أما آرثر شوبنهاور، فإنه فيرى أن الدهشة تدفع الإنسان إلى التفكير الفلسفي، وهو بذلك لا يبتعد عن التعريف الأرسطي.

الدهشة هي صفة مميزة للإنسان، لأنها تتعلق بالتفكير في الموت والألم وبؤس الحياة. وهي لا تكتفي بمساءلة غوامض الأمور، بل تتجاوزها إلى كل ما هو بديهي، في محاولة لإعادة التفكير في الأشياء التي بدت كمسلمات.

يقول جان هرش في مقدمة كتابه "الدهشة الفلسفية" إن الدهشة هي أساس الشرط الإنساني. إن كتب الفيزيائيين الكبار مليئة بالدهشة الفلسفية والميتافيزيقية، وهم أنفسهم يندهشون كالأطفال. وهذا يعني أن على الإنسان أن يكون على درجة عالية من العقل، وهو شرط للتفكير في العالم والوجود. وكما يرى شوبنهاور، فإن الدهشة ستنتهي لو أن حياة الإنسان أبدية، لأن سؤال الوجود عندها لن يكون له معنى.

يعود الكاتب إلى طاليس الملطي، قبل ستمائة عام من الميلاد، وإلأى فكرة التغير الدائم، وهنا يطرح السؤال: "ما الجوهر الذي يظل ثابتاً في خضم التغير؟". ما هو الأساس الذي يقوم عليه كل ما هو زائل؟ يجيب طاليس الملطي: إنه الماء، ويقول آخر: إنه الهواء، فيما يقول ثالث: إنه النار. ومع هذا، فإن فلاسفة ملطية لم يكونوا يقصدون أن هذه عناصر بالمعنى المادي للكلمة، لأن مفهومي المادي واللامادي لم يكونا متبلورين عندهم بعد، لكنهم أخذوا في الحسبان العناصر الأشد لطافة والأكثر سلاسة.

من طاليس ينتقل هرش إلى المدرستين الأيونية والإيلية، اللتين طرحتا مشكلة التغير والديمومة، الفاسد والثابت، الواحد والمتعدد. فالفاسد ينتمي إلى عالم المتعدد، بينما الثابت ينتمي إلى عالم الواحد. يقول هيراقليطس إن التغير هو قوام وجود الأشياء، وإن كل ما يوجد، لا يوجد إلا بفضل المتناقضات. ويشرح بألفاظ أسطورية: "إن الصراع هو أصل كل شيء". وهذا الكلام سينوجد بعد زمن طويل في فلسفتي هيغل وماركس.

ينتقل الكاتب إلى فلسفات زينون وسقراط وأفلاطون، وصولاً إلى فلسفة العصر الوسيط، إلى عصر النهضة، وينهي كتابه عند الفلسفة المعاصرة؛ حيث يقول: "ثمة اليوم الكثير من الفلاسفة الأحياء الذين لا يزالون يكتبون ويعلّمون، إلى درجة يصعب تحديد من مِن بينهم سيخلد ذكره لاحقاً". ويصل إلى نتيجة أن الفلسفة الراهنة لم تفكر بما يكفي من العمق ولا بما يكفي من الدقة، في تقدم العلم والتقنية. ويتابع: "سواء بباعث من الغطرسة، أو من عقدة نقص، فهي لم تساهم في جعل معاصرينا يعون، على المستوى الثقافي والروحي، هذا التحول الذي قلب عالمهم ومجتمعاتهم، بحيث يفهمونه ويستوعبونهم".

تمكن الكاتب من أن يتوصل إلى تحقيق هدفه، ولو بشكل نسبي، وهو أن يكون كتابه هذا مدخلاً إلى مفكري الماضي العظام، الذين اجتهدوا في توضيح مشكلات شرطنا والانخراط فيها، ومن دون هذه المشكلات لن نكون بشراً، ولن نتمكن من أن نكون كائنات حرة ومسؤولة.

----

الكتاب: الدهشة الفلسفية

الكاتب: جان هرش

ترجمة: محمد آيت حنا

الناشر: منشورات الجمل، بيروت- بغداد، 2019