هل ثمة علاقة بين العبادات القديمة، التي توسم بالوثنية، وبين حياتنا المعاصرة في بعض تجلياتها؟ ألم تصلنا بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي تشير إلى هذه العلاقة مثل عيد النيروز وشم النسيم وعيد النور؟ وماذا عن الرموز مثل الهلال والنسر والكبش أو الثور والخرزة الزرقاء، وهل ننسى الإله بعل وتموز وعشتار وأدونيس؟

إن الاقتراب من العبادات، الموسومة بالوثنية، قد يكون له محاذير عديدة في مجتمعاتنا اليوم، لكن "خلف هذا المعنى الظاهر لهذه العبادات، توجد فلسفة عميقة تعبر عن موقف من الحياة والكون والإنسان، وعن خبرة دينية ناتجة مباشرة من التعامل مع الطبيعة".

يؤكد د. غسان بديع السيد في كتابه "تجليات المقدس في عبادات الشعوب القديمة" أن حضور تلك العبادات "أقوى مما نتصوره، لكننا لا نشعر بحضورها، لأن قسماً منها انزاح عن أصله كي يكون مقبولاً في مجتمع يؤمن بحقيقة سماوية نزلت في مرحلة تاريخية معينة ألغت ما قبلها".

إن علاقة الإنسان بالمقدس "قديمة، معقدة ومركبة، تستند إلى شعوره بالإطمئنان في حمايته من الشرور أكثر مما تستند إلى وعي معرفي لهذه العلاقة". وفي العصر الحديث أشارت العديد من الدراسات إلى أسباب "نفسية واجتماعية واقتصادية" تحكم هذه العلاقة، مؤكداً على وحدة التفكير البشري بخصوص العلاقة مع المقدس مهما اختلفت الطرائق، لأن المقدس بعد كوني شامل، وبدايات الثقافة تضرب جذورها في تجارب ومعتقدات دينية.

وكانت نقطة البداية في هذه العلاقة ناشئة من خوف الإنسان الذي اعتقد أن كائنات خفية هي التي تحرك ما يحيط به في الطبيعة. وقد أشار الباحثون إلى قواسم مشتركة بين البشر في العبادات الأولى التي تسمى "المرحلة الأرواحية"؛ حيث كانت عناصر الطبيعة هي الطاغية في مجال التقديس. وفي مرحلة لاحقة حاول الإنسان أن يصنع أوثاناً في مناطق مختلفة من العالم كما هو الحال مع الإله القمر، أو الإله الشمس، أو الإلهة الزهرة، ويرى البعض أن عبادة القمر هي أقدم العبادات في الشرق القديم.

ويرى أن ما يجمع عبادات الشرق القديم هو "التجسيد إما عن طريق شخصيات بشرية تنصب نفسها آلهة كما هي الحال مع نارام سين الأكادي، أو الفراعنة في مصر، أو عن طريق صناعة التماثيل والأصنام. وهذا ما نراه في انتشار المعابد منذ أقدم العصور، والتي تحولت إلى مؤسسات يقوم على رعايتها كهنة متفرغون".

كما يشير الباحث إلى أن العرض المختصر للعبادات القديمة، في مناطق مختلفة من العالم، يؤكد التشابه الكبير بينها منذ بداية نشأتها، وحتى انتشارها وتشكيلها ديناً له رموزه وطقوسه وأساطيره وجمهوره الذي يؤمن به إيماناً لا يتزعزع.

والأسطورة تحكي ما كان يعتقد أنه حدث بداية خلق الكون وعلاقة الآلهة بالبشر والعالم "تروي تاريخاً مقدساً، حدثاً بدئياً جرى في بداية الزمان. وشخصيات الأسطورة آلهة وأبطال حضارة، هي تاريخ ما حدث في ذلك الزمن".

أما الطقوس المختلفة، من ديانة إلى أخرى، فتعد حاملاً للمعتقد الذي ينهار دونها. وقد حول الدين حياة المقدس إلى مجموعة من الطقوس التي تتناول الجوانب الحية المتنوعة منذ الولادة وحتى الموت. وهذه الطقوس تحتاج إلى رموز تتوجه إليها، "والرموز تتحكم بالظاهرة الدينية عبر السيطرة على الوعي الجمعي الذي يضمن استمرارية المعتقد من خلال رموزه التي تتوجه الطقوس إليها".

وإلى ذلك يحضر القربان من خلال علاقته بالمقدس باعتباره "عمل ديني يغير، من خلال تكرير أضحية، الحالة المعنوية للشخص الذي يقوم به، أو حالة بعض الأشياء التي تتعلق به". وهذا الطقس موجود في الديانات السماوية، واستمر معها وبعدها بهدف الحصول على رضا الآلهة إما لضمان السلامة الشخصية والأسرية، أو لطلب المغفرة عن ذنب يشعر الإنسان إنه اقترفه تجاه الآلهة.

وهناك نوعان من القرابين: الفردي ويرتبط بأمر خاص بالفرد نفسه أو بأسرته في وقت يختاره أو يراه مناسباً، والجماعي الذي يقدم في مناسبات جماعية مثل الأعياد والاحتفالات وكانت تجري في أوقات محددة.

يقول فرويد: "يعيش إنسان ما قبل التاريخ داخل لاشعورنا دون أي تغيير". وهذه العبارة بالغة الدلالة على ما بقي من أفعال وطقوس ذات طابع ديني يقوم بها الإنسان المعاصر دون إدراك واع، في معظم الأحيان، لحقيقة تلك الأفعال مثل: طمر الأظافر المقصوصة في التراب، ارتداء لباس ليس فيه عقد في بعض المناسبات الدينية، العد يقلل البركة.. وغيرها".

الكتاب يقدم أمثلته، الغنية بدلالاتها، ومن خلال الديانات القديمة كالفيدية والهندوسية والبوذية والطاوية وديانات الشرق القديمة المتعددة، مستشهداً بالعديد من الدراسات التي خاضت في هذا المجال.

----

الكتاب: تجليات المقدس في عبادات الشعوب القديمة

الكاتب: د. غسان بديع السيد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب