إن أقوام الناهوا والمايا الذين كانوا يعتنون كثيراً "لدرجة تثير الفضول" بحفظ ذاكرة أحداثهم الماضية، لم يتركوا للنسيان رؤيتهم الخاصة للحدث الأكثر إرهاباً ومأساوية: "الفتح" الذي قام به رجال غرباء دمروا إلى الأبد أساليب حياتهم العريقة.

إن كتابة التاريخ أبرز الأساليب التي يلجأ إليها "الغازي – المنتصر" لتقديم التاريخ من وجهة نظره التي يصور عبرها الآخر ساعياً لكسب تعاطف القارئ ووسم المغلوب بصفات وحشية تبرر فعل الغزو نفسه، في محاولة قسرية لقلب المعايير الأخلاقية والإنسانية بحكم مقدرة المنتصر على تصدير وجهة نظره، متجاهلاً القيم الإنسانية من أجل لوي عنق الحقيقة التاريخية..

وهكذا كانت الكثير من الروايات والحكايات عبارة عن دفاع مرسوم عن "الفتح"، وبعض المقالات تقدم السكان الأصليين للعالم الجديد كبشر متوحشين ووثنين، جل اهتمامهم "أكل لحوم البشر وممارسة الشذوذ. ولكن ظهرت بعض المقالات التي تصفهم كأنموذج للفضائل الفطرية".

الباحث ميغيل ليون بورتيا ذهب إلى البعد الآخر من الصورة، فوضع كتابه "رؤية المغلوبين – شهادات السكان الأصليين حول الغزو الإسباني لبلاد المكسيك" مؤسساً لشكل مغاير من كتابة التاريخ هدفه المركزي إظهار "رؤية الآخر وصورته"، ونعني رؤية المغلوب لواقع الغزو لبلاده. وقد ترجم الكتاب إلى عدد كبير من اللغات في العالم منذ صدوره 1959.

وهكذا يمضي الكتاب في محاولة للإجابة على أسئلة مثيرة: ماذا فكر رجال العالم الجديد، على الخصوص أهل أمريكا الوسطى مثل الناهوا والمايا، حين رأوا وصول المستكشفين والفاتحين إلى شواطئهم وحواضرهم؟ بأي معنى فهموا نضالهم؟ كيف قيموا هزيمتهم؟

في البداية ظن المكسيكيون أن الواصل هو الأمير "كيتزالكواتل" المنحدر من سلالة الآلهة، وقد سافر باتجاه الشرق منذ زمن ولم يعد حتى ذلك الوقت! وقد أخبر "الرجل الفقير ماثيهوال" الملك موكتيثوما عما شاهده عن وصول "أبراج أو تلال تعوم على سطح البحر".

جمع الملك موكتيثوما حكماء بلاده وطلب منهم: "اذهبوا ولا تتأخروا. رحبوا بسيدنا الإله وقولوا له: لقد أرسلنا نائبكم موكتيثوما. ها هنا ما يقدمه لكم كهدية على وصولكم بسلام إلى مقركم في مكسيكو". وفي الحقيقة فقد لقي "الآلهة المبعوثون من السماء" ترحيباً شديداً من الملك عند وصولهم إلى شواطئ مكسيكو على أمل تفادي مواجهة، اعتقد أنهم غير قادرين عليها، أمام الأمير السماوي العائد بعد غياب. ولم تجدِ محاولة الملك والحكماء الذين أرسلهم للترحيب بالقادم من أفق البحر البعيد، فقد ذهب الحكماء لاستقبال المبعوثين "إنهم حاملو الحكمة القديمة التي يرمز لها بالحبر الأسود والأحمر لمخطوطاتهم. لا نعلم لماذا اختاروا تسليم أنفسهم، لكن الفاتحين أطلقوا باتجاههم الكلاب. واحد فقط تمكن من الهرب".

أولى المعارك وقعت مع أهل تلاكسكالا الذين كانوا يتحرقون للانتقام من أهل شولولا، ولذلك شاركوا بالمذبحة ضد أبناء جلدتهم، والبداية كانت بقتل أهل "تيكوال" بشكل وحشي بواسطة المدافع والسيوف ما ألقى الرعب في قلوب الآخرين.

وتتوالى المذابح المرعبة من أجل السيطرة على البلاد الجديدة، حيث ارتكب بيدروا ألفارادو مذبحة المعبد الكبير بحق شعب الناهوا، وذلك خلال عيد "توشكاتل" الذي يقيمونه لإلههم "هويتزيلوبوشتيلي"، مستغلين انشغال الناس بطقوس الرقص والغناء والأهازيج. وبعد عدة معارك رأى الملك المتخاذل موكيتثوما، بعد أن أثقله الإسبان بالحديد ووضعوا أغلالاً في قدميه، أنهم ليسوا أكفاء لمجابهة الغازي، ولذلك أرسل يقول: "إننا لسنا أنداداً لهم، لا أيها المكسيكيون، فليترك بسلام الترس والسهم". لكن الشعب رد بقوله: "ما الذي يقوله هذا التعس؟ لم نعد رعاياه البتة!".

هذه الصور والأحداث تتشابه، في الواقع، مع كثير من مثيلاتها في مناطق مختلفة من العالم تعرضت للغزو، وكانت المواقف متباينة، لكن النتيجة أن الغازي المنتصر يسير على تلال من الجثث تحت راية تبريرية متلونة لأفعاله. ورواية "الفتح" للمكسيك التي صيغت قرابة 1528، من قبل مؤلفين مجهولين في تلاتيلولكو، المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، تشكل جزءاً من "حوليات تاريخية عن الأمة المكسيكية"، وهي تتضمن الحدث بدءاً من رؤية سفن الغازي الإسباني في عرض البحر، لتسير مع الأحداث المتتالية والمختلفة في قسوتها وعنفها الذي انتهى بسيطرة من ظنوا أنه مبعوث السماء. وقد كتب أحدهم: "ليكن في علمكم أنه بهذه الوقائع قد خسرنا الأمة المكسيكية. لقد فسد الماء والطعام. هذا ما فعله واهب الحياة في تلاتيلكولكو". وتصل المأساة إلى ذروتها في الوصف التالي لما آل إليه حال الإنسان بعد الغزو:

لقد سعرونا

سعر للشاب والكاهن

للطفل وللفتاة

كفى! تعس بائس كان السعر

فقط عشر حفنات من الذرة

سعرنا فقط عشرون قطعة من عجة النخيل المالح

----

الكتاب: رؤية المغلوبين

الكاتب: ميغيل ليون بورتيا

ترجمة: رياض شرف الدين

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب