أظهرت أعمال المؤرخ بيير هادو أهمية التمارين الروحية لدى مختلف المدارس الفلسفية اليونانية والرومانية في العصر القديم كالأفلاطونية والأرسطية والأبيقورية والرواقية والأفلاطونية الجديدة. ولقد حضر مفهوم التأمل في هذه المدارس عبر عدة أشكال، ففي البداية فُهم بكونه حواراً مع الذات، حيث وجدت هذه الفكرة عند فيثاغورث ثم سقراط.

والتأمل في اليونانية تم فهمه في المدارس الفلسفية في العصور القديمة بمعنى حفظ المبادئ العظيمة للمذهب وتكرارها. فالتأمل يعني قراءة النصوص وحفظها عن ظهر قلب وتذكرها بشكل داخلي أو بصوت عال كل يوم، وقد أوصى أبيقور في كتابه إلى مينيسيه قائلاً: "تأمل كل هذه التعاليم ليلاً نهاراً، عندئذٍ لن تشعر بالاضطراب لا في نومك ولا حتى في صحوك". وهذا التأمل المنتظم للتعاليم الجوهرية يسمح بتغيير نظرة المتأمل للعالم، ويجعله يتطور روحياً بتقديم الفرح والصفاء له. إنه يركز على مبادئ الطبيعة المادية قدر تركيزه على قواعد الحياة.

وعند الرواقيين يتم التأكيد أيضاً على التأمل اليومي لمبادئ الحياة التي تتبادر دائماً إلى الذهن لمواجهة أي حدث مزعزع أو مؤلم، وإن واحدة من أهم المظاهر الهامة في التأمل الرواقي هي ممارسة الانتباه، وهي مدركة بصفتها حضوراً أو يقظة مستمرة للفكر، فعلى الذهن أن يكون منتبهاً دوماً ومتيقظاً ليستطيع التحرك بطريقة ملائمة إزاء كل حدث، وهذا الانتباه يقود إلى العيش في اللحظة الحالية وحجب الهموم أو الحقيقة أو الجزئية المرتبطة بالماضي أو بالمستقبل. وحين نركز اليقظة على اللحظة الحالية، فإن هذا الانتباه يسمح بمواجهة كل حدث ويفتح وعينا على بعدٍ كوني يجعلنا واعين للقيم المطلقة بكل لحظة.

وفي الواقع نجد لدى الأبيقوريين الإلحاح نفسه على تركيز الانتباه على اللحظة الحالية لكن بطريقة مختلفة، فمع يقظة العقل والانتباه الأخلاقي للرواقيين، نجد الرواقيين يعارضون لذة عيش اللحظة والاستمتاع بتذوق فعل الوجود الوحيد، وهكذا يتعلق الأمر بتذوق كل لحظة وأن نستخلص منها أكبر قدر ممكن من الفرح والصفاء. التأمل والعقل

يقول فريدريك لونوار في كتابه "التأمل بقلب منفتح" إن التأمل يعني أن أكون منتبهاً بشكل عميق ودائم، وأن أكون في حالة حضور كلي، فبالنسبة إليه فإن الانتباه عادة محدود ولا يستمر لوقت طويل، والتأمل يمكن أن يعمل على توسيع الانتباه وجعله مستمراً ومركزاً عند تدقيق النظر على شيء ما أو نقطة محددة.

أيضاً التأمل عند لونوار هو ممارسة حقيقية للحظة الحالية، لأننا نتعلم عدم ترك فكرنا يتجول في الماضي، أو يتطلع إلى المستقبل. والتأمل ذو الحضور الكلي يدعونا إلى مرافقة الحركة الدائمة للحياة بصفاء، ويعلمنا استقبال كل ما هو موجود من دون أن نحكم عليه ومن دون أن نتوتر. فالألم كالفرح والقلق كالاسترخاء والراحة كالتعب. والتأمل يعلمنا العيش بانشراح وبحضور منتبه، إنه تمرين العقل الذي ينتهي بالتحام مع كل حدث في الحياة اليومية.

ومهما يكن نمط التأمل الذي نمارسه، فإن الانتباه يستدعي دوماً فضيلة ذهنية هي اليقظة، فعندما نتأمل فإن عقلنا يتيقظ للمحافظة على الحضور، وهذا ما يفرق بين التأمل والاسترخاء، حيث إنه في التأمل يبقى الذهن نشطاً ملتزماً منتبهاً، وتكمن الصعوبة في التوصل إلى استدعاء الذهن عبر جهد التيقظ هذا ودون استرخائه، فيجب على الجهد أن يكون مرناً دون توتر ودون توقعات مفرطة، والتأمل يدرب ذهننا على أن يكون حاضراً مع كل ما هو موجود هنا والآن، ما يزيد قدرتنا على التركيز والانتباه بشكل متدرج ينتج عن ذلك سلسلة من الفوائد على المستوى الجسدي والنفسي على حد سواء.

----

الكتاب: التأمل بقلب منفتح

الكاتب: فريدريك لونوار

ترجمة: عبير حمود

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق