استقى أبو الطيب المتنبي مفهومه عن الزمان من مصدرين، أولهما خبرته بالحياة وتجاربه المتنوعة، أما المصدر الثاني فهو اطلاعه على الكتب الفلسفية المختلفة وما يتصل بها من منطق. وتجري في بعض جوانب شعره صور الأقيسة المنطقية الدقيقة، ونشعر ونحن نقرؤه بروعة الشاعر العظيم الذي يعبر عن تجارب الحياة بفلسفة عميقة، فيها عمق ثقافته وتفكيره وإحساسه. والمتنبي ليس فيلسوفاً بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، لكنه شاعر متفلسف يملك فكراً ثاقباً بصيراً بطبائع الناس وأخلاقهم.

أشار المتنبي بصورة متكررة للزمان بصفته تكراراً لظواهر كونية محددة، فقد ذكر الربيع والليالي والأصائل والضحى والساعة، وهذه أزمنة معينة قد تطول أو تقصر على حسب إعادة تكرارها.

ويرى الدكتور علي شلق أن المتنبي قد نظر إلى الزمان نظرة فلاسفة المسلمين قبله وبعده بأن الزمان (سيال غير قار)، فهو يرى في الزمان نهراً يجري بالتبدل، في حين ترى مؤلفة كتاب "الزمان في شعر المتنبي" الدكتورة لميس داود أن هذا الفهم للزمان يقترب من نظرة الفلاسفة اليونان هيرقليطس خاصة، أكثر من اقترابه من فهم فلاسفة المسلمين للزمان.

والزمان عند المتنبي مشخص يرمز إلى مجموع القوى الكونية التي تتحكم في مصير الإنسان بأسلوب غامض قلّ أن يتبيّن العقل له حكمة أو هدفاً راشداً، ذلك حسب ما جاء في رأي مؤلفي كتاب "المحصول الفكري للمتنبي".

أما الزمان بمعناه النفسي في شعر المتنبي هو القوة الفاعلة (سلباً وإيجاباً)، كما ربط بين الزمن والحالة النفسية للإنسان، فنلاحظ في شعره لفتات نفسية كثيرة يعبر فيها بدقة متناهية عن الإحساس النسبي بطول الزمن وقصره، والزمان في مفهومه الإنساني عنده هو ما يحدث للفرد في حياته، وعلى هذا الأساس فلكل إنسان زمنه ولكل جيل زمنه ولكل أمة زمنها، بما يشمله هذا الزمن من خير أو شر أو سرور أو محن.

وكثيراً ما تختلط أو تتوحد الرؤية الموضوعية للزمن مع الرؤية النفسية له في شعر المتنبي، فقد اتخذ من الزمن مجالاً خصباً للتعبير عن آرائه ومشاعره ونظراته، كما اتخذ منه وسيلة لمد آفاقه في الحياة والفكر والتأمل، ومن الجدير بالذكر أن النظرة الذاتية أو النفسية للزمن عند المتنبي تغلبت على النظرة الموضوعية التي تنظر إلى الزمن على أنه فكرة مجردة غير محسوسة، وقد تميز المتنبي بالنظرة الذاتية عن غيره.

أيضاً تجلى الزمان في مضامين المتنبي الشعرية بقوته السلبية غالباً والإيجابية نادراً، وغالباً ما كان يوفق إلى ربط صفات القوة السلبية أو الإيجابية للزمن بالحالة النفسية التي كان يعانيها أو التجربة الشعرية التي مرّ بها.

المواجهة مع الزمن

تتخذ العلاقة بين المتنبي والزمان صوراً عدة أولها (الصراع) بينهما، فيكون الزمان إما مؤثراً على الشاعر (فاعلاً)، أو متأثراً به (منفعلاً). وهذه المواجهة بينه وبين الزمان أمر طبيعي إذ ليس أقسى على الموجود الذي يملك الحرية ويحن إلى الأبدية وينزع نحو اللانهائية، من أن يشعر بأن لحريته حدوداً، وأن الزمان ينشب أظفار الفناء في عنقه، وأن التناهي هو نسيج وجوده. ولكن اللافت للنظر عند المتنبي أنه في أشعاره التي ذكر فيها الزمان يبدو لنا موقناً حقاً بقصدية الزمن في إقامة علاقة تضاد وصراع معه، فهو يشخصه تشخيصاً بارعاً ويصوره على أنه متعمد إيذاءه وإحزانه، وتخريب كل ما بنى.

ويمكن إجمال ملامح قوة المتنبي في علاقته مع الزمان من خلال: تعجب الزمن من المتنبي وإعجابه بشخصيته، وتعالي المتنبي على الزمان، وملاحقة الدهر أو الزمان للانتقام منه فعلياً. كذلك يمكن أن نجمل خصائص العلاقة الصراعية بينه وبين الزمن بالتصادمية والفاعلية والتأثير ويقين المتنبي بقصدية الزمن للدخول في علاقة صراعية معه.

الصورة الزمانية والمكانية

كثيراً ما يذكر المتنبي المكان حين يذكر الزمان رابطاً بينهما ربطاً واعياً يدل على فهمه لماهية كل منهما، وقد فرّق أبو الطيب المتنبي وميّز تمييز العارف الفطن بين الزمان فجعل خواصه التغير والسيولة والتحول، والمكان فجعل خواصه الثبات وعدم القدرة على الرحيل، كما عبر عن الزمان بالمكان بما أن الزمن فكرة مجردة، ذلك لسبب وضحه الدكتور عبد الكريم اليافي بأنه الاقتران الذهني بين المجرد والمحسوس وبين الزمان والمكان، فمنظر الأشجار والزهور في حقل ما في بلد ما يدلنا على الفصل الزمني الكائن في ذلك البلد.

الحركة الإيقاعية الزمانية

إن الحركة الإيقاعية للنص الشعري الزماني عند المتنبي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمواقف الوجدانية المختلفة والأحوال النفسية له، فالصور المجازية والحقيقية والإيقاعية إنما هي انعكاس لروحه وذاته بآلامها وآمالها، ورؤاه الفكرية، ولتجربته العميقة في الزمن والحياة، وكما يقول الدكتور صلاح عبد الحافظ: "إن صورة أبو الطيب المتنبي هي صورة خالدة أبدية، تحلق في آماد الجمال، وتسبح في أغوار النفس الإنسانية، تُخرج خبايا الصدور والنزعات الدفينة وتسمو عن الانفعالات السطحية، تمزج بين المتناقضات".

----

الكتاب: الزمان في شعر المتنبي

الكاتب: د. لميس داود

الناشر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق