يوضح المفكر السوري محمد كرد علي في كتابه "القديم والحديث" أنه لم يأتِ على هذه الأمة دور مثل هذا اشتدّ فيه النزاع بين القديم والحديث، وانهزم القديم بضعف القائمين به وقوة أنصار الحديث، والمقصود أرباب التقليد ممن يرون السعادة في الاكتفاء بما تعلموه من آبائهم وورثوه عن أجدادهم من العلوم والآداب، ويعدون ما عداها ضرراً يجب البعد عنه ومحاربته بكل وسيلة، والمقصود بأرباب التجديد الذين يزعمون أن الاكتفاء بعلوم أهل الحضارة الحديثة وحدها كافية في رفع شأننا.

الذاكرة أو الحافظة وهي حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أموراً مضت وتأثيرات وقعت، فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف إنها وعاء العلم وصوان الحكمة، أما بيكته الأديب السويسري فقد بيّن أنه كان للحافظة شأن مهم جداً عند الناس في العصور الأولى أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة، فقد كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية، وعامة القوانين والعادات والشعر، لذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه.

وللحافظة شأن عظيم في ترقية الفكر الإنساني، وبدونها يكون كل شيء عقيماً لا ثمرة له، لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت، وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة، ولم يُعرف القانون الذي تسير عليه، كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته، وغاية ما عُرف عن أمرها أنها تقوى بالانتباه والتمرن.

ولقد ذكر التاريخ كثيرين من أرباب الحافظة النادرة منهم في القديم ميتريداس الكبير ملك شمالي غربي آسيا الصغرى، الذي كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة، ويخطب أمام كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، أيضاً ليبس اللغوي والأديب البلجيكي الذي كان يحفظ تاريخ "تأسيت" المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفاً حرفاً، ومنهم أيضاً رينودي وهودج دونو ويوسف سكاليجه وغيرهم.

وفي الإسلام كان الاعتماد على الحافظة والحفاظ على أشده قبل تدوين الكتب وتأليف الرسائل والمصنفات، وما إن انتشرت الطباعة أمسى الناس يستندون إلى الصدور والقراطيس والأسفار، بدلاً من الحفظ والاستظهار، فضعفت بذلك الحافظة وإن قويت المفكرة، وقلت الرواية وإن لم تقل الدراية.

الإنشاء والمنشئون

إذا أردنا أن نحكم على المنشئين بما انتهى إلينا من خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم ومصنفاتهم، وبدأنا بأهل القرن الأول للإسلام نرى على رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فإنه سيد البلغاء على الإطلاق، وواضع بنيان البيان العربي، وكلامه كما قال العارفون بعد كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام أبلغ كلام.

ولقد خُتم القرن الأول بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ثم جاء القرن الثاني ونبغ في أوله عبد الحميد بن يحيى الكاتب وهو النهاية في البلاغة والفصاحة، اختط للناس خطة الترسل والإنشاء، ثم عبد الله بن المقفع وأبو اسحق الكاتب إبراهيم بن محمد المدبر.

أما القرن الثالث فقد امتاز بظهور الجاحظ الذي رزق الإجادة في كل ما كتب، ومما امتاز به هذا القرن أن علوم الأوائل التي بدء بترجمتها في منتصف القرن الأول في دمشق، زادت العناية بها في بغداد على عهد المنصور العباسي، ثم بلغت أشدها في زمن المأمون، وقد أدخلت هذه العلوم والصناعات في العربية روحاً جديداً واغتنت اللغة ورأت من الأساليب والأفكار ما لا عهد لها به.

وتميز القرن الخامس بظهور الكثير من الكتاب منهم الأمير قابوس بن وشكمير والثعالبي وأبو حيان التوحيدي، ومن المجيدين في الإنشاء في هذا القرن أحمد بن مسكويه وأبو طاهر محمد بن حيدر، أما سيد المنشئين فهو القاضي الفاضل وزير صلاح الدين، يليه في المرتبة عماد الدين الكاتب الأصفهاني.

وممن كان في القرن السابع من الكتّاب وسار على الطريقة الفاضلية في الإنشاء محيي الدين عبد الظاهر وابنه محمد فتح الدين، ويعد الأب والابن من واضعي نظام الإنشاء في عصرهما والعصرين التاليين الثامن والتاسع.

والحقيقة أنه في القرنين السادس والسابع كان الكتّاب يقلد بعضهم بعضاً فأصبحت الصناعة لا إبداع فيها ولا تجديد، حتى جاء القرن التاسع جاء بعض المجددين منهم عبد الرحمن بن خلدون ولسان الدين الخطيب.

لقد كانت دواوين الإنشاء في قرطبة وغرناطة والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز الحكومات في القرون الوسطى مدارس لتعليم الإنشاء والأخذ من فن الأدب العربي، فلما انحلت دولة الأندلس واستولى العثمانيون على مصر والعراق والشام بطل التناغي بالأدب والإنشاء، وأصبح فن الإنشاء مقصوراً على بعض أفراد كل قطر عربي يستخدمونه كحلية أو زينة.

أما القرن الحادي عشر فيعتبر مبدأ قرون الظلمات في الكتابة، وما يقال في كتّابه يقال في كتّاب القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلا أن أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر شهد حركة تجدد، حيث اختلط أهل مصر والشام بأهل الغرب لا سيما علماء فرنسا، فأخذت المترجمات المختلفة في عهد محمد علي تؤثر تأثيرها المطلوب في روح الكتابة، ومن المجددين الذين ختم بهم القرن الثالث عشر أحمد فارس الشدياق الذي نقل إلى العرب طريقة جديدة في تآليفه، وترك أثراً جميلاً من نبوغه وتفننه في أساليبه.

أما إمام النهضة الحديثة في النصف الثاني من هذا القرن فهو رفاعة بك الطهطاوي، كذلك كان من أهم الرجال الذين أدخلوا الإنشاء في ظهور جديد وحلّوه من قيوده الثقيلة الشيخ محمد عبده المصري والشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، ونشأ في الشام كذلك كتّاب عصريون منذ حوالي خمسين سنة ومعظمهم ممن تشعبوا باللغات الإفرنجية، ولا يذكر أنه نشأ في الشام على عهدها الأخير كاتب مثل إبراهيم المويلحي المصري، ونشأ في الإنشاء في الشام أمثال إبراهيم اليازجي وإبراهيم المصور وشكيب أرسلان وغيرهم.

ولم يبرح النزاع عندنا بين أنصار الجديد والقديم على أتمه، لكن التطوير يعمل عمله على الرغم من احتجاج المحتجين وصياح الصائحين، والانتقال محسوس في الأدب كما هو محسوس في كل أطوار الحياة عندنا.

----

كتاب القديم والحديث/ المؤلف محمد كرد علي/ الناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة والنشر