بدأت قصة الأدب الروسي بتاريخ عظيم الأهمية بالنسبة إلى التاريخ السياسي والثقافي الروسي، إنه العام الميلادي 988 عندما اعتنق حاكم إمارة كييف المسيحية بشكل رسمي كديانة جديدة للإمارة، وقد أرسى الأمير فلاديميير بفعله هذا أسس ما نسميه الآن الأدب الروسي في العصر الوسيط.

كان الأدب الروسي مؤدلجاً بدرجة عالية منذ البداية، حيث ارتبط بالكنيسة ارتباطاً وثيقاً. ونظراً لأن الكنيسة والدولة كانتا متداخلتين بشكل وثيق في روسيا القروسطية، فقد كان من الطبيعي أن يدعم الأدب أغراض الدولة، وهكذا ما دام الكتّاب في معظمهم لا يعتبرون أنفسهم خصوماً للدولة والحكم، فإنهم على الأغلب كانوا منسجمين مع أهداف مجتمعهم ودولتهم مع استثناءات معينة.

وفي العصر الوسيط لم يكن ثمة ما يُدعى ثقافة أدبية إلا في حدود ضيقة، والكثير من أعمال هذه المرحلة المبكرة مجهولة المؤلف، وقد عمل معظم الكتّاب بما يشبه العزلة مستمدين زادهم الثقافي من كتابات من سبقهم. لكن مع نهاية القرن السابع عشر بدأ الوضع بالتغير، حيث أصبح هناك بعض الكتّاب المعروفين الذين عاشوا في زمن واحد ومكان واحد وعرف أحدهم الآخر.

أما العام 1730 فيعتبر العام الأكثر أهمية في التاريخ الأدبي الروسي منه في التاريخ السياسي الروسي، لأنه عام مفتاحي للتحول من التقاليد الفنية للأدب القروسطي ذي التوجيه الكنسي، إلى الأدب الدنيوي الحديث، حتى أصبح هذا التاريخ بحق هو الأهم على مدى ألف عام من السيرورة التاريخية للأدب الروسي.

الكلاسيكية الجديدة

واءَم الكتّاب الروس في محاولتهم لخلق أسس أدب حديث بعد عام 1730 بين نظريات الكلاسيكية الجديدة الأوروبية الغربية والظروف الروسية، فقد وضع ترديكوفسكي وسوماروكوف أطراً لنظام أجناس أدبية معقد، وصاغا قواعد كان الكاتب الجاد مضطراً عملياً لاتباعها، حيث طور ترديكوفسكي ولومونوسوف نظاماً جديداً للكتابة الشعرية مستبدلين الصورة الكلاسيكية للمقاطع اللفظية المحتوية على حركات طويلة أو قصيرة بمقاطع محتوية على حركات منبورة أو غير منبورة، رافضين مخطط الكتابة الشعرية التي تعتمد على مراعاة نفس عدد المقاطع في السطر، كما أنشأ لومونوسوف شكلاً من نظام كلاسيكي بثلاث أساليب (رفيع وسط منخفض) في اللغة الأدبية الروسية، ووضع له بنية نظرية عظيمة الأهمية.

والحقيقة أنه خلال القرن الثامن عشر ازداد عدد الكتّاب الروس، وشرعت بالبروز ملامح مجتمع أدبي بعد أن كان في العقود الأولى التالية لعام 1730 عدد الكتاب قليلاً، وفي العام 1755 بدأت المجلات الأدبية الروسية بالظهور ومعها التجمعات الأدبية غير الرسمية، ثم أحسّ ديرجافين لاحقاً بأهمية وجود شكل من تجمع أدبي، فجمع حوله كتّباً منهم كانتمير ولفوف. وهكذا استجمع الأدب الروسي زخماً وأصبحت الظروف ملائمة لأن يكون عام 1790 بداية مرحلة جديدة في تاريخ الأدب الروسي.

السنتمنتالية وبواكير الرومانتيكية

انتهت الفترة الممتدة بين عامي 1790 و1820 مع حراك فكري بلغ ذروته في الانتفاضة الديسمبرية المجهضة في العام 1825، فقد بدأت المرحلة مع عمل عكس بصدق التوترات السياسية المواكبة للثورة الفرنسية وهو "رحلة من سان بطرسبورغ إلى موسكو" لمؤلفه راديشيف، وانتهت مع قصة بوشكين الشعرية "رسلان ولودميلا".

وفي هذه السنوات الثلاثين الفاصلة المتميزة باضطراب وفوضى ثقافية حدث تحول عظيم في مقاربة الأدب للعالم عبّر عنه بجدارة آرثر لوفجوي، حيث حصل حينئذٍ تحول من التركيز على معيار إنساني واحد إلى إيمان بالتنوع لأجل ذاته.

ففي حين أقصت الذهنية الكلاسيكية التجربة الفردية والعاطفية من الأدب، جعل كتّاب العصر السنتمنتالي الحساسية الفردية معبودهم، وفي حين لم ترَ العين الكلاسيكية إلا ما هو مهم للمجتمع ككل، مال المؤلف السنتمنتالي إلى التركيز على الحساسيات الشخصية وحتى الشذوذات الفردية، وفي المرحلة الكلاسيكية كان الصراع النظامي بين الحب والواجب يجب أن يتكلل بنصر الأخير، في حين أنه في العصر السنتمنتالي يجب أن ينتصر الحب على طول الخط. وفي ظل مثل هذا التحول أو التغير كانت ثمة ثوابت أيضاً، ومنها بقاء الشعر في مركز الصدارة مع تراجع القصيدة الغنائية لتحل مكانها أجناس أقصر وأقل تميزاً على رأسها القصيدة التأملية المغلفة بالكآبة والحزن، لكن الشعر احتفظ بمواقعه جيداً في معركة التنافس مع النثر واستمر حتى نهاية المرحلة الرومانتيكية.

وما ميز هذه المرحلة أيضاً الحضور الواسع للحلقات الأدبية الرسمية وغير الرسمية التي نشأ منها وعي الكتّاب الروس، حيث أصبحوا على صلة ومعرفة شخصية، وشكلت هذه الصلات الشخصية أرضية لتفتح أزهار الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.

الرومانتيكية

في هذه المرحلة بدأ الكاتب الروسي يرى نفسه معارضاً للنظام القائم، لا سيما بعد قمع انتفاضة الديسمبريين في العام 1825، وصار الكتّاب الروس في الغالب لا يحصلون إلا على وظائف حكومية متواضعة، ولم يعد لهم دور يُذكر في رسم السياسة الحكومية. وفي هذه المرحلة أيضاً أصبح الأدب نوعاً من سلعة ذات قيمة في سوق، وصار على الكاتب أن يُقدم نتاجاً يمكن أن يحظى باستحسان جمهور القراء يدفعهم لشرائه من أجل إعالة نفسه.

وفي سياق السعي للوصول إلى هذا الجمهور، نشأ ما سمي بالمجلات السميكة، والتي شملت على مقالات في مجالات النقد الأدبي الذي راح يتطور بسرعة، كذلك قامت بدور هام كبؤر محركة للحياة الأدبية، وتبنّت كل مجلة مقاربة محددة، واستقطبت كتّاباً أيدوا مقاربتها، وبهذا كانت سبب تفريق وتجميع في آن معاً لصفوف الكتّاب.

المرحلة الواقعية

امتدت هذه المرحلة بين عامي 1855 و1880 حيث مارست فيها المجلات السميكة تأثيراً عظيم الأهمية، وتنازعت التيارات السياسية والأدبية فيما بينها الهيمنة على أفضلها وأهمها.

وقد شكّل عقد الستينيات قلب ربع قرن الواقعية الروسية، وبؤرة النشاط والحيوية بما في ذلك تكريسه للراديكالية وتركيزه على النثر، وابتعاده عن الشعر العاطفي والغنائي، وهذا ما أثر على تطور الأدب الروسي لسنوات كثيرة بعد انقضائه.

أما عقد السبعينيات فقد شهد فتوراً نسبياً في النشاط الثقافي، لكن مع بداية الثمانينيات بدأت المرحلة الواقعية خط انحدارها، حيث غاب عن الساحة الأدبية كل من تشيرنيشيفسكي ودوبروليوبوف، ومات نيكراسوف ودوستويفسكي وبيسيمسكي وتورغنيف، وكفّ غونتشاروف عن النشر، وكان تولستوي يمر بأزمة روحية قادته إلى رفض كل عمله في السابق. وبهذا كانت الإنجازات الروسية الأهم للأدب الروسي في أعظم مراحله في القرن التاسع عشر غدت تقريباً أشياء من الماضي.

----

الكتاب: تاريخ الأدب الروسي

الكاتب: تشارلز أ. موزر

ترجمة: د. شوكت يوسف

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب