رغم أن السيناريوهات الثقافية الأساسية تزداد تعقيداً وتتغير مع مرور الزمن، لكنها تبقى نواةً ثابتة في كل ثقافة. ففي ثقافة الممالك القديمة، بقيت بعض التصورات ثابتة كالإيمان بالآلهة، والاقتناع العميق بأن الإنسان يخضع لها ويقدم الأضاحي، وإداك أن تصرفاته وأفعاله بالاشتراك مع الآلهة... إلخ، ويبيّن التحليل أن نواة الثقافة تحدد النمط الرئيس للتنظيم وهو هنا: تقسيم العمل ونظام الإدارة الصارم.

وما دامت نواة الثقافة ثابتة، تبقى السيناريوهات الثقافية الأساسية ناشطة وفاعلة ومؤمنة نشر وتحقيق العمليات الثقافية الرئيسية، وهي خلال ذلك تتحمل كافة التوترات الناتجة عن تحديثات السيناريو الأساسي.

وبما أن جميع الرؤى الجديدة في الثقافة مقيدة بإحكام بالسيناريو الثقافي الأساسي والتنظيم القائم للنشاط، فإن جميع التجديدات حتى المتناقضة بصورة مباشرة مع السيناريوهات الأساسية تندمج في شكل هذا السيناريو متداخلة مع مواضيعه.

أوغسطين

اعتقد الإنسان القديم المنضم حديثاً إلى المسيحية أن نفسه (روحه) مثل الطارئة الطبيعية تقوم بدورة الحياة والموت، وأن العالم الذي كان يدركه ثابتاً لحكمة إلهية، وأن مصير الإنسان لا يتعلق به، بينما كانت تعاليم المسيحية تؤكد العكس.

إن التأمل في صورة الإنسان الجديد لا يمكن خلقها إلا بجهود شخصيات منفردة تسبق زمنها، وإن ماهية إبداع أوغسطين تنحصر في بناء مخططات وصور الشخصية القروسطية المتجهة إلى الكتاب المقدس والعمل على إعادة بناء الإنسان القديم، وخاصية الشخصية القروسطية هي الجدلية الملموسة بين الحرية والضرورة التي يكمن جوهرها في الاعتراف بحرية الإنسان الشخصية ضمن أطر العلاقات الطائفية والإيمان بالإله.

وأوغسطين برسمه لمخططات وصور الشخصية الوسيطة، أوجد الظروف لتثبيت وتشكيل هذه الشخصية من ناحية، كما خلق الإمكانية المبدئية لإدراكها من ناحية أخرى، وإن مخططات وصور الشخصية الوسيطة تعطي صورة الذات التي يبدأ إنسان العصور الوسطى بمساعدتها في بناء سلوكه المستقل وتحديد علاقاته بالناس الآخرين والسلطة، وعلى أساس هذه المخططات والصور أيضاً يدرك الإنسان الوسيط ذاته ويناقش بخصوصها مكتسباً معارف جديدة.

عصر النهضة

برز الإنسان والحياة الواقعية في مركز الاهتمام خلال عصر النهضة، ولعل هذا التحول نلاحظه بوضوح أكبر في مواضيع المضمون الديني. ومما لا شك فيه أن كل عصر ديني يصيغ فهمه المتميز للإله والقديسين والأحداث المقدسة، ذلك الفهم الذي يناسب إدراك الإنسان للعالم في هذا العصر، لكن على الفنان خلال ذلك أن يحافظ على جوهر المهمة الإبداعية، فيعرض على العالم والإنسان العادي عالماً سماوياً آخر، ويغوص في حقيقته، حيث كانت تجري الأحداث والمآثر الصوفية الخارقة.

وقد صاغ الإحساس الإيزوتيري بالعالم في عصر النهضة على أوسع صورة المفكر الإيطالي جوفاني بيكوديللا ميراندولا في حديثه عن جدارة الإنسان، وفيه يؤكد أن الإنسان يقف في مركز العالم، بينما كان الإله يقف في مركز العالم في العصر الوسطى.

وهكذا إذا ما أراد الفنان أن يشابه الملائكة عليه أن يتطهر ويمتلئ بالنور ويبلغ الكمال، وفي هذه الحالة حسب وجهة الإحساس الإيزوتيري بالعالم فإن شخصيته المتطهرة والممتلئة بالنور والبالغة الكمال تبرز أنموذجاً للكائن الأسمى.

ولقد اعتبر فنانو عصر النهضة الإنسان والطبيعة أنموذجاً، لكن ليس الإنسان العادي والطبيعة العادية، بل المجسدين والمتحققين إيزوتيرياً وعلمياً، وبصفة أنموذج الإنسان من حيث هو الأنموذج الأصلي للإله والقديسين يبرز الفنان الإيزوتيري نفسه.

الفن المعاصر

من وجهة نظر التفكير الفلسفي والعلمي التقليدي، فإن العمل الفني هو نتاج إبداع وتفكير (الفرد) الشخصية، أما الشرح فهو التفسير في لغة معينة لهذا النتاج، وإن كل من العمل الفني وشرحه والشخصية هي مواضيع تخلق أو تدرك العمل على أساس الشرح، توجد بصورة مستقلة ولا يؤثر أحدها على الآخر.

ويشير فاديم روزين في كتابه "التفكير والإبداع" إلى أن الإنسان المعاصر وإلى جانب مقاربة أنصار ما بعد الحداثة التي تعترف بالكثرة غير المتناهية للعروض المشابهة، يهتم اهتماماً كبيراً بمسائل التأويل المطابق للعمل الفني الذي يفهم منه شيئين رئيسيين: الفهم المتطلع إلى المعاصرة، والفهم الذي يعالج مهام محددة كإدراك الفن – الركيزة، والفن الروحي أو القضايا الأخلاقية بالنسبة إلى الفن المعاصر.

ويبيّن أنه في عصرنا الراهن إذا ما أثير كثير من التفسيرات المقنعة بخصوص عمل فني واحد، فنتساءل إلى أي وجود يدعونا هذا العمل؟ وهل يمكن للعمل نفسه أن يوحي لنا ما يفضله؟ وهذا أمر مستبعد، وكما يحدث دائماً يقع الخيار على عاتق الإنسان، فإما أن يختار ذلك الوجود (التفسير) الذي هو فيه نفسه، أي يدمج الحقيقة والأحداث التي تظهر التفسير المختار في حقيقته ووجوده، وهذا ما نقده أصحاب ما بعد الحداثة، أما الحالة الثانية والأكثر تعقيداً أن الإنسان قد يضطر من أجل الدخول إلى الحقيقة المعطاة في التفسير أن يتغير هو ذاته.

لقد اعتدنا التفكير أن الإنسان حر، لا سيما إذا كان شخصية، بيد أن الفلسفة تقودنا برأي روزين إلى فكرة أن الإنسان الأوروبي الجديد لا يمكنه العيش إلا بتأكيده وإقراره لوجوده من خلال الآخرين، لكن يمكن تفسير العمل الفني هو بالذات حالة وجود الآخر، ولهذا وباستجلاء تفسيرات العمل الفني وتفضيل بعضها على البعض الآخر، لا نقتصر على الفهم والمعايشة، بل تكتشف ونثبت أنفسنا بالفعل.

----

الكتاب: التفكير والإبداع

الكاتب: فاديم روزين

ترجمة: د. نزار عيون السود

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب