شهد عالم السرد الرّوائي عبر مسيرته العديد من التّجارب الإبداعيّة، سواء أكان ذلك على مستوى المضمون أو الشكل، وضمن هذا المسعى التّحديثي برزت ظاهرة "التّجريب" كفعل تغييري ينطلق من فكرة المغامرة الفنيّة والإتيان بما هو جديد، والثورة على ما هو سائد من أنماط الكتابة الروائيّة.

يصبح الروائي مسكوناً بهاجس البحث المستمر بغية التّجديد، والبحث عن أشكال فنيّة جديدة، وتقنيات قادرة على تغطيّة إشكالات الرّاهن وملابساته، وبعد أن باتت الرواية العربية المعاصرة تتبوأ منزلة هامة ضمن فنون التعبير الأخرى، وذلك من خلال اعتمادها على أساليب وتقنيات جديدة، سواء على مستوى الموضوعات أو التقنيات الفنية المستخدمة على مستوى الكتابة، فقد حطمت التقاليد، وتمرّدت على الشكل المعهود، ما أدى إلى ظهور مصطلح جديد لدى النقاد العرب، ألا وهو مصطلح "التجريب".

شكلت الرواية العربية عامة والسورية خاصة عامل جذب للعديد من النقاد والدارسين في تطور حركتها ومواكبتها لتجليات الحركة الثقافية الفكرية، والفلسفية الاجتماعية، والاقتصادية السياسية، التي استند دارسوها على النزعة التجريبية في تحولات سردية ضمن التجريب البحثي العلمي التقني المتبع، والوصول إلى رؤى فكرية وتطور ثقافي في الشكل والمضمون والهدف. واشتغل النقاد على هدفين؛ الأول إيجاد نظرية نقدية عربية، والثاني تطوير الرواية العربية عبر التجريب، خاصة وقد نهل العديد من الأدباء من دراسات وبحوث للعناصر الفنية للرواية التي تمت منذ القرن الثامن عشر إلى حاضرنا، مع تميز كل ناقد برؤيته وثقافته في التجريب لدراسة تحولات السرد الروائي بين حدائق المبدعين الأفذاذ الذين عملوا على إغناء محتوى السرد وتحولاته بلغتهم وخيالهم وأسلوبهم، من خلال التمرد على سكونية اللغة وصيغتها الحكائية.

يؤكد الناقد محمد رضوان في كتابه "التجريب وتحولات السرد في الرواية العربية" أن تناول التجريب في الرواية السورية يكون عبر ثلاثة مستويات، منها ابتكار عوالم متخيلة جديدة لا تعرفها الحياة العامة ولم تتداولها السرديات السابقة، مع تخليق منطقها الداخلي وبلورة جمالياتها الخاصة، ثانياً توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق استخدامها في هذا النوع الأدبي، مع ملاحظة أن وجود بعضها في ثقافات أخرى لا يسلب منها الطابع التجريبي للمغامرة الروائية، وثالثاً اكتشاف مستويات لغوية في التعبير تتجاوز نطاق المألوف في الإبداع السائد، ويجري ذلك عبر شبكة من التعالقات النصية التي تتراسل مع توظيف لغة التراث السردي أو الشعري أو اللهجات الدارجة أو أنواع الخطاب الأخرى لتحقيق درجات مختلفة من شعرية السرد، وهنا لابد من الإشارة إلى أن النزعة التجريبية في الرواية السورية لم تكن مرتهنة بزمن معين أو بجيل روائي محدد.

أن دراسة "التجريب في الرواية العربية" يأتي ضمن سياق الدراسات النقدية الجديدة في طبيعة القراءة للنص، إذ ينطوي العمل فيه على قراءات مرجعية متنوعة، تم من خلاله تناول أعمال روائيين لهم حضورهم الإبداعي الثقافي على الساحة الأدبية عامة والروائية خاصة، ذلك أن الرواية كفن هي من الأجناس القابلة للتجريب بشكل كبير فيه من الغرائب والعجائب والمتخيل السردي ومقومات العمل ما يجعل العمل متميزاً وفق ما يحمله المبدع من أسلوب وطريقة ولغة.

ويرى الناقد والروائي الراحل محمد رضوان ضمن مفهوم التجريب أن "ألان روب غرييه" يشير من أجل رواية جديدة "إن قوة الروائي هي في أن يخلق.. بكل حرية وبدون أنموذج"، وهذه العبارة تؤسس للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها مفهوم التجريب الروائي، فالتجريب قرين الإبداع لأنه ينهض على ابتكار طرائق وأساليب جديدة في أنماط التعبير الفني المختلفة، إذ هو جوهر الإبداع وحقيقته حين يتجاوز المألوف ويغامر في قلب المستقبل، متوغلاً في المجهول، إنه فن قائم بذاته، دائم التحول والتجاوز، يخترق مساره ضد التيارات السائدة بصعوبة شديدة. يقيناً أن فن الرواية في محصلته هو فن تجريبي بامتياز كامن في دينامكية الخلق ذاتها، ينهض على مغامرة التداخل بين أنواع السرد مغادراً أطلال السرد الكلاسيكي. وفي هذا السياق ليس بوسعنا الآن أن نرسم خارطة تحولات هذا التيار التجريبي في جميع المراحل، لأن طرفاً منه سرعان ما يندثر، وطرفاً منه سرعان ما ينشر ليدخل بدوره في نسيج التقاليد المستقرة، مع الإشارة إلى أن الرواية التجريبية ليست أسيرة مذهب أدبي أو تيار أو مصطلح، بل هي مناخ مقيم، وهاجس يحضر بكل ألقه في ذات الكاتب الإبداعية.

الرواية كفن لا ينقطع عن التجريب لأنها ذات حرية وهي تؤسس لقوانين ذاتية وتنظر لسلطة الخيال، وتتبنى قانون التجاوز المستمر الذي ينهض على مجموعة من الخيارات الواعية المتعمدة، التي تقلقل طمأنينة القارئ المعتاد على الحبكة التقليدية، والشخصيات الواقعية، لكنها تقوم قبل كل شيء على التجريب. ولذلك فهي ترفض أي سلطة خارج النص، فكل رواية جديدة تسعى لأن تؤسس قوانين اشتغالها في الوقت الذي تتيح فيه هدمها، لأن تجارب منها سرعان ما تندثر، وتجارب أخرى لا تلبث أن تنتشر في نسيج التحولات المستمرة في واقع مأزوم ومتغير على الدوام، وقد أصبح من الصعب الإمساك به وتحديده. فالرواية العربية، باعتبارها رواية تجريبية، استطاعت أن تحقق ثراء فنياً متميزاً، بعد خروجها من قميص البلزاكي وتلامذته، لاسيما خلال القرن العشرين ومطلع هذا القرن، حيث تمكنت على يد جيل طموح تواق إلى التجديد والتجاوز، من ملامح تجربة إبداعية وسردية متكاملة، منشغلة بتكريس خطاب روائي مهووس بالبحث عن أشكال فنية وفضاءات تعبيرية جديدة غير مألوفة، وغير تقليدية، وبالتالي يصبح الخطاب الروائي العربي المعاصر والسوري خاصة بنية مفتوحة على جملة من التحولات في المنجز الفني السردي بشقيه اللغوي والجمالي والتخييلي بمختلف تجلياته الاجتماعية والسياسية والثقافية.

----

الكتاب: التجريب وتحولات السرد في الرواية السورية

الكاتب: محمد رضوان

الناشر: اتحاد اكتاب العرب، 2013