تتمرد الرواية الحديثة على النمطية والأشكال الجاهزة، فهي "رواية الحرية إذ تؤسس قوانينها الذاتية"، وهي لا تدعي لنفسها "فلسفة معينة، وترفض الأشكال الجاهزة للفكر ولطرائق التعبير عنه، ولذلك لا يمكن للحداثة الروائية أن تتحول إلى شيء جاهز أو إلى وصفات يمكن الاسترشاد بها".

يرى الناقد الروسي باختين أن الرواية غير قابلة بطبيعتها للتقنين "ما دامت شكلاً يبحث باستمرار عن شكل له، ويعيد النظر في الأشكال التي استقر فيها"، ولكن قد تمت الاستعانة بالرواية التقليدية، لما تمتلكه من مزايا، على سبيل التقريب كمؤشرات معيارية لتمييزها عن غيرها من النصوص الأخرى التي تنتمي إلى باقي الاتجاهات الأدبية.

ويلفت د. مرشد أحمد في كتابه "تنويعات سردية في الرواية العربية الحديثة" إلى أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت خرقاً لأعراف السرد التقليدية، يتوافق مع تطور نمط الحياة "لصالح نظام سردي حديث يفضل الاشتغال على آليات سردية متموضعة في رحاب أفق آخر للتخييل الروائي نهض على التجريب ومنح القيمة الكبرى للفاعل الإبداعي". وهذا النزوع الحداثي اقتضى من الروائي التحرر من كل من يكبل الذهنية السردية في عملية التفكير والتخييل وامتلاك رؤية ناضجة للعالم، ليتمكن من تلمس روح العصر وإدراك التحولات الطارئة على بنيان المجتمع، والإجابة على أسئلة الوجود وفق منظور حداثي.

مما سبق يقتضي أن نفهم الحداثة "في بعديها الزمني والأدواتي، أي بكونها مشروعاً مغايراً إبداعياً وفكرياً للسائد والمألوف والنمطي، وطريقاً نحو فهم أعمق وأشمل لأسرار الإبداع الروائي". وهذا يفترض الانطلاق من "الإنجاز الروائي المبدع وليس من التصور أو المفترض أو من الخلفيات الأيديولوجية" للحديث عن الحداثة في الرواية العربية.

في تناوله النقدي لرواية "حارس المدينة الضائعة" للروائي إبراهيم نصر الله الذي استعرض الحكاية عبر ساردين الأول عليم "متباين حكائياً" وهو خارجي عن الحكاية، والثاني "متمثل حكائياً" لأنه إحدى الشخصيات الروائية المشاركة في أحداث الحكاية، وخلال عرض الحكاية للمتلقي اتبعا طريقة سردية حديثة "نهضت على اشتغالية تسمى التناوب السردي"، وهذا التناوب تجلى بمظهرين: السرد المتتالي صوتياً، والسرد المتباعد صوتياً. والأول يتم فيه عرض المادة الحكائية بواسطة صوتي الساردين بشكل متلاحق، وصوت السارد منهما قد "يأخذ جملة سردية، أو سياقاً حكائياً، أو مقطعاً حكائياً حسب المقتضى الحكائي الذي يتم سرده". والمتباعد صوتياً "ينهض على صوت سارد واحدن أسندت إليه مهمة سرد فصل بأكمله".

وفي قراءته النقدية لرواية "عرس فلسطيني" لأديب النحوي، يشير الناقد د. مرشد أحمد إلى ثيمتين أساسيتن: الأولى بعنوان مظاهر اشتغال البنيات الحكائية، حيث يقوم السارد عبر اشتغاله هذا بعرض الحكاية "وفق استراتيجية بنائية محددة، نهضت على جعل البنيات الحكائية، الشخصية والمكان والزمان، تتضافر بنيوياً لاحتواء المعنى". والثانية تتعلق بالمصدر الغائي لجدل البنيات الجكائية ومستوى رؤية السارد "المتنامية لتجليات الواقع اللا إنساني المهيمنة على المجتمع الروائي".

ويمكن للنص الروائي أن يلجأ إلى استدراج الأنواع الأدبية الأخرى كالقصيدة والقصة والمذكرات، حيث يشكل استدعاء النص الشعري، في سياق السرد، نوعاً من "التلاقح بين السردي والشعري ويخدم مرونة الجنس الروائي، ويعينه على التطور والتجدد، ويعمق روابط التواصل والالتقاء المعرفي بين منجزات الإبداع داخل النص الروائي ما يؤدي إلى إغناء الحكاية بمعطيات حكائية تمتح من جنس أدبي غير حكائي". والأمر نفسه ينطبق على استخدام المذكرات في سياق السرد الروائي، حيث يستفيد السارد من المذكرات باعتبارها نصوصاً تنطوي على مصداقية وشهادة على واقع ما.

كما يكتسب النص الروائي قيمة إبداعية مستقاة من أنساق ثقافية غير حكائية، تعمل على نقل مقاصده وتعميق أدبيته، وتوسيع جماليات تلقيه. وذلك من خلال ما يطلق عليه "العتبات النصية" أو الموازيات النصية، ويفضل الناقد مصطلح "المصاحبات النصية" وهي تندرج تحت عناوين عدة "اسم المؤلف، العنوان الرئيسي، العناوين الداخلية، الحواشي، التصدير، الاستهلال، كلمة الناشر" وهو ما يؤدي إلى نوع من "التفاعل النصي، وتحقق الإمساك بمجمل العلاقات التي تصل النصوص فيما بينها". ولهذه المصاحبات النصية مظاهر تموضع وكيفية للاشتغال عليها داخل المنظومة السردية.

وفي الحديث عن "جماليات الوصف السردية" يشير الناقد إلى أن السرد والوصف عمليتان متماثلتان، لأنهما يظهران بوساطة مقطع من الكلمات "التتابع الزمني للحكي" إلا أن موضوعهما مختلف، فالسرد يعيد التتابع الزمني للأحداث، في حين أن الوصف يمثل موضوعات متزامنة ومتجاورة في المكان.

والانتقال من السرد إلى الوصف يؤدي إلى تغيير في وظيفة السارد؛ إذ ينتقل من وظيفته الأساسية "عرض الحكاية على المتلقي" إلى وظيفة الواصف، أي أنه يخرج من سرد الأفعال إلى تمثيل الموصوفات.

----

الكتاب: تنويعات سردية في الرواية العربية الحديثة

الكاتب: د. مرشد أحمد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب