تحمل رؤية الوضع في فلسفة الدين الغربية المعاصرة، تحليلاً ضمن النظريات الفلسفية الأكثر تأثيراً، والتي نشأت نهاية القرن العشرين، إذ تعد تقليدياً أحد أهم مجالات النشاط الفلسفي النظري.

كتاب "فلسفة الدين الغربية المعاصرة" للكاتب الروسي يوري أناتوليفتش كميليف يتضمن الدور البارز للغاية الذي تلعبه فلسفة الدين في الفلسفة المعاصرة، وفي الحياة الروحية الفكرية والحياة الأيديولوجية للدول الرأسمالية المتطورة. فهو يقوم بتحليل كامل لفلسفة الدين الغربية في المرحلة الراهنة من وجودها، وهي ضرورة يمليها النقص الواضح للعيان في الكتابات الماركسية، المحلية والأجنبية، التي كان من المفترض بها أن تعنى بتحليل فلسفة الدين الغربية كتكوين فكري، نظري، يتميز بالخصوصية. وفي هذا الشأن يكفي التنويه بأن الموسوعات الفلسفية السوفييتية لا تحتوي على مقالات مخصصة لفلسفة الدين كظاهرة مكتملة ومحددة المعالم.

يبحث الكاتب في فلسفة الدين كنمط خاص من التفلسف، مؤكداً أن لمفهوم "فلسفة الدين" معنيين أحدهما واسع والآخر ضيق. فهي بالمعنى الواسع للكلمة مجموعة التوجهات الفلسفية، الحالية والمحتملة، وجملة التصورات عن طبيعة الدين ووظائفه، والتأملات الفلسفية عن طبيعته وعن علاقته بالكون والإنسان، وثمة موقف محدد من الدين، جلياً كان أو مستتراً، تتضمنه كل منظومة فلسفية.

إن ما تطمح فلسفة الدين إلى تحقيقه يتحدد في جوهره بالتطلعات العميقة للفلسفة الأوروبية التي تعقل نفسها كجهد معرفي كلي، حيث يتعين على كل واقع قائم من المعرفة أن يتوافق مع التوجه الثقافي الثابت، وأن يحصل على تبرير ومصادقة من جانب العقل الفلسفي. وهذا التوجه يخضع بطبيعة الحال للتغيرات التاريخية، وتتنوع درجة إفصاحه عن نفسه. والتناسب مع الدين هو خاصية هامة من خصائص الفلسفة. وكانت علاقة الفلسفة بالدين منذ نشأتها هي التناسب من البداية، وتعايشهما الدائم من اللحظة التي تبدت فيها الفلسفة كشكل خاص من الوعي والنشاط النظري.

لعل فلسفة الدين بالمعنى الواسع تعيد إنتاج الطيف الكامل من المواقف الفلسفية المعاصرة لها، لذا فإن تحليل الوضع الراهن، بوجه خاص، لفلسفة الدين الغربية، ليس تحليلاً لمكون أو جانب محدد من الفلسفة الغربية المعاصرة فحسب، بل هو أيضاً وبدرجة ما، تحليل لهذه الفلسفة.

وتعد فلسفة الدين صياغة متأخرة نسبياً من وجهة تاريخية لموضوع الاهتمام الفلسفي الأساسي بالدين، إذ كانت قد ظهرت في العصور الحديثة الشروط الأساسية التي جعلت الشكل المكتمل لفلسفة الدين يبدو ممكناً، كونها نمطاً خاصاً من التفلسف، وزد على ذلك في وجهيها الأساسيين: البحث الفلسفي للدين، واللاهوت الفلسفي. ويتعين علينا أن ننسب إلى عداد هذه الشروط الهامة انفصال الدين، الذي شرع يتضح باستمرار، عن المجالات الأخرى من نشاط الإنسان الروحي والأيديولوجي والعملي، وكذلك اكتساب الفلسفة استقلالاً فعلياً.

ويؤكد الكاتب يوري أناتوليفتش كميليف أن ابتعاد مسافة عن الدين، ساعد على صياغة الموقف منه كموضوع معرفة، وقد مهد لتشكل هذا الموقف أيضاً ذلك الانعتاق الشهير للفلسفة، في العصور الحديثة، من سلطة المرجعيات الخارجية، وشرع يغلب في الفلسفة الفهم الذاتي الذي تصبح الفلسفة بموجبه بحثاً مستقلاً بالكامل ويطرح نفسه شكلاً راقياً من المعرفة. وبالتوافق مع هذا الفهم الذاتي لا يمكن لأي من مجالات حياة الإنسان البقاء خارج البحث الفلسفي، فكل شيء يجب أن يكون معقولاً ومفكراً فيه فلسفياً، والأكثر من ذلك، يتعين عليه أن يحصل على شرعية فلسفية. والدين لم يكن ليشكل استثناء هنا، لذا على الفلسفة أن تطرح نفسها كفلسفة دين، وفي أثناء ذلك تتطلع الفلسفة لا إلى إدراك الدين فحسب، إنما إلى منحه شرعية. كذلك ثمة توافق عام في الأدبيات الفلسفية الغربية على اعتبار سبينوزا مؤسس فلسفة الدين بالمعنى المعاصر. وهذا التصور كان قد تشكل منذ زمن بعيد؛ فهذا أوتو بفليدرر مؤرخ الفلسفة الشهير يكتب في نهاية القرن التاسع عشر في عمله الواسع "تاريخ فلسفة الدين" أن الشروط من أجل بحث فلسفي للدين غير متحامل عليه نجدها لأول مرة ، وعلى وجه الإجمال، عند بينيديكت سبينوزا، لذا فمنه نبدأ المرحلة الأولى من تاريخ فلسفة الدين، التي ينبغي أن نسميها تبعاً لموقف الفكر النقدي من الدين الوضعي "مرحلة فلسفة الدين النقدية".

تعتبر الظواهر المأزومة في المركب الفكري للدين عاملاً أساسياً في الوضع الإشكالي لفلسفة الدين الغربية المعاصرة. وتشكل الأزمات، وبعث الطقوس الكنسية، كحياة دينية شعبية، مجرد خلفية بعيدة للتأملات الفلسفية الدينية، في حين أنها نادراً جداً ما كانت تحصل على صياغة واضحة في التأملات، والمظهر الوحيد للحالة الدينية المعاصرة، والذي أصبح موضوعاً لاهتمام جلي في فلسفة الدين هو التعددية الدينية، أضف أنها تعددية على نطاق كوني.

إن العامل الأساسي في الوضع الإشكالي يبحث بطرق متباينة ويتم تعقله بشكلين أساسيين تتبدى فلسفة الدين الغربية بهما. وهما البحث الفلسفي الديني بمنزلته بحثاً فلسفياً دينياً، واللاهوت الفلسفي. في البحث الفلسفي الديني يظهر الدين موضوعاً للاهتمام الأساسي من حيث هو موقف للإنسان من الواقع المدرك كواقع إلهي، الدين من حيث هو فعل إنساني وظاهرة ثقافية. أما الواقع أو الحقيقة الإلهية، فيبرز في البحث الفلسفي الديني كموضوع ثانوي، والدراسة الفلسفية للدين يمكنها أن تقترن بمواقف فلسفية عامة متباينة، وهذه المواقف تحدد في نهاية الأمر شكل التعامل مع الدين، لكن عدم الإفصاح نسبياً عن الرؤى الفلسفية العامة، يظل ميزة ملحوظة في فلسفة الدين الغربية المعاصرة، وبهذا فإنها تختلف إلى حد كبير عن فلسفة الدين في العصر الحديث.

----

الكتاب: فلسفة الدين الغربية المعاصرة

الكاتب: يوري أناتوليفتش كميليف

ترجمة: هيثم صعب

الناشر: دار البلد للطباعة والنشر، 2016