ثمة عدد كبير من روايات وقصص الخيال العلمي أو الأدبي القديمة تنبأت بتقنيات كانت صعبة التحقيق في زمن تأليفها. وفيما بعد أصبحت حقيقة.

يبدأ كاكو صاحب نظرية "الأوتار الفائقة" مقدمة كتابه بطرح أسئلة تبدو عبثية المضمون وصعبة التحقق أو حتى التخيّل مثل: هل سيمكننا يوماً ما بناء سفينة فضائية تسير بأسرع من الضوء؟ وقراءة أفكار الآخرين؟ والاختفاء عن أعين الناس؟ وتحريك الأشياء بقوة عقولنا؟ ونقل أجسامنا فوراً عبر الفضاء الخارجي؟

وسرعان ما يبرر دافعه إلى طرح أسئلة من هذا النوع؛ فهي بداية قصة حبه للمستحيل، ومن مشاهدته مسلسل الخيال العلمي "فلاش غوردون" الذي كان يعرض في خمسينيات القرن الماضي. لكن التقدم بالعمر بالنسبة إلى الإنسان يعني التخلي عن التفكير بالمستحيل؛ فقد وجد حلاً لذلك بالتوغل في علم الفيزياء النظرية. وكان في المرحلة الثانوية حين قدم مشروعاً لتوليد أشعة غاما تكفي لتوليد مضاد المادة، وكان هدفه السير على خطى مثله الأعلى عالم العصر آلبرت آينشتاين.

نسبية المستحيل

يرى كاكو أن المستحيل مصطلح نسبي، ويلخص فكرته بأن ما كان يبدو مستحيلاً، يصبح حقيقة علمية مؤكدة. وربما بعد مضي سنوات تتوصل البشرية إلى تحقيق القضايا التي تبدو مستحيلة حالياً مع ظهور نظريات متقدمة كنظرية الأوتار الفائقة. والدليل على ذلك ما جاء في رواية "باريس في القرن العشرين" لصاحبها جول فيرن والصادرة عام 1863؛ حيث تنبأت الرواية بالكثير من التقانات الموجودة الآن. لكن الدراسة الجادة للمستحيل فتحت حقولاً غنية وغير متوقعة من العلم، كالأبحاث المتعلقة بمركز الأرض المُسخن بالتفكيك الإشعاعي وديمومة انصهاره لمليارات السنين، وسخرية الكثيرين من روبرت غودارد مؤسس علم الصواريخ الحديث، وعدم قناعتهم بإمكانية انطلاقها وسفرها في الفضاء الخارجي. إلى أن أدرك هتلر معاني صواريخ غودارد "المستحيلة"، فأمطر وابلاً من صواريخ V-2على لندن خلال الحرب العالمية الثانية. ويرى كاكو أن دراسة المستحيل أجبرت العلماء على إعادة النظر بما يعنونه بكلمة "مستحيل".

تصنيف المستحيلات

ينقلنا كاكو في كتابه الممتع إلى تصنيف المستحيلات، وفق ثلاثة أصناف هي: مستحيلات الصنف الأول، وهي تقانات مستحيلة اليوم، لكنها لا تناقض القوانين المعروفة في الفيزياء، وهي حقول قوة نشأت فكرتها من عمل العالم البريطاني مايكل فارادي في القرن التاسع عشر، حيث أصبحت حقول فارادي القوى التي تدفع الحضارة الحديثة، من البلدوزر الكهربائي إلى حاسبات إنترنيت وهواتف نقّالة، وهي ما دعت مؤلف الكتاب إلى تأليف نظرية الأوتار الفائقة.

أما الصنف الثاني فهو تقانات تقع على حافة فهمنا للعالم الفيزيائي، وسيستغرق تحقيقها آلاف وملايين السنين، وتشمل آلات الزمن وإمكانية السفر عبر الثقوب الدودية. بينما يناقض الصنف الثالث قوانين الفيزياء المعروفة التي من الممكن أن تمثل تحولاً أساسياً في فهمنا للفيزياء.

الرجل الخفي وسيد الخواتم

لقد ظل الحجب من الرؤية إحدى عجائب الخيال العلمي منذ رواية "الرجل الخفي" لصاحبها إتش جي ويلز، إلى معطف الحجب السحري في روايات هاري بوتر، أو الخاتم في فيلم سيد الخواتم.

وواجهت رواية "حرب النجوم"، التي حوّلها جورج لوكاس إلى فيلم سينمائي، عدة انتقادات من قبل البعض، لأن أحداثها مستحيلة رغم أنها ممتعة، حيث تحدث مؤلفها عن سلاح نجم الموت. وفي الواقع الفيزيائي لا توجد حدود فيزيائية لكمية الطاقة التي يمكن حشدها في شعاع ضوئي. وفي الأساطير القديمة اشتهر الإله اليوناني زيوس بإطلاق سهامه على الأحياء. وعرف إله الهندوس أندرا بإطلاق طاقية من رمح سحري. وانفجرت المدافع الشعاعية على مشهد الخيال العلمي عام 1889 مع رواية حرب النجوم، حيث دمر غرباء من المريخ مدناً بكاملها بإطلاق أشعة من الطاقة الحرارية. واعتبر العلماء الساخرون من فكرة المدافع الشعاعية أنها تناقض قوانين البصريات.

النقل الفوري والتخاطر

يذكر المؤلف مسلسل الخيال العلمي الشهير ستاربرك لمؤلفه جون ريدنبري في أكثر من مكان ضمن الكتاب، واستخدم جملة سكوتي كبير المهندسين في المسلسل بخصوص فكرة النقل الفوري: "لا أستطيع تغيير قوانين الفيزياء أيها القبطان!". فعند تحقيق هذا الأمر ستصبح وسائل النقل المستعملة الآن باطلة. وفي قصص الخيال العلمي تم ذكر النقل الفوري في قصة "الرجل بلا جسد" للمؤلف إدوار بيغ ميتشل المنشورة عام 1877. وبحسب نظرية نيوتن، فإن النقل الفوري البعيد مستحيل، لأنه لا يمكن للأجسام أن تختفي ثم تظهر فجأة في مكان آخر. بينما في نظرية الكوانتم، فإن هذا ما تقوم به الجسيمات. وقد استغل دوغلاس آدمز خاصية نظرية الكوانتم في روايته المضحكة "دليل المسافر المتطفل إلى المجرة".

ويخلص المؤلف إلى إمكانية النقل الفوري للذرات، لكن بالنسبة إلى الأجسام، يمكن أن ننتظر عدة عقود أو عدة قرون.

كما يتطرق المؤلف إلى ما نشهده هذه الأيام من أحاديث وحقائق عن الذكاء الاصطناعي، ليستنتج أن الروبوتات، ومهما بلغت دقة صنعها وتطورها، لا يمكن أن تحل محل الإنسان، ولاسيما من ناحية المشاعر والعواطف. وفي النهاية تبقى آلة، ولا يمكن أن تتفوق على صانعيها، وإذا حدث ذلك، فليس الآن وإنما في المستقبل البعيد.

كما شغلت قضية التخاطر عن بعد العلماء منذ القدم، وأبرزت سلسلة الخيال العلمي الأسطورية "المؤسسة المميزة" لإسحق أسيموف، القوة الحقيقية لمتخاطر حقيقي. وفي مجال الفيزياء أجرت مؤسسة البحث النفسي التي تأسست عام 1882 وما زالت موجودة حتى الآن، أول دراسة علمية عن موضوع التخاطر، فكشفت ادعاءات المحتالين.

وهكذا يستعرض المؤلف الكثير مما ورد في قصص الخيال العلمي، ثم درسها العلماء، لكنّ أغلبها كان مستحيلاً، كتحريك الدماغ للأشياء، والسفن النجمية والصحون الطائرة وغيرها، حتى إثباتها على أرض الواقع.

"فيزياء المستحيل" كتاب مدرج بين الأعمال الأدبية وأبحاث الفيزياء، لتبدو مقولة إسحق أسيموف "إن أكثر العبارات إثارة في العلم والتي تشير إلى اكتشافات جديدة، ليست (وجدتها) ولكن: هذا غريب".

----

الكتاب: فيزياء المستحيل

الكاتب: ميشيو كاكو

ترجمة: الدكتور سعد الدين خرفان

الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2013