انهار الحلم في أوروبا العظمى المسيحية عام 1453 مع الاستيلاء على القسطنطينية، وأخذت أوروبا الغربية تنطوي على ذاتها، وقد اختتم تنازل شارل كنت عن العرش عام 1555 هذه المرحلة محدثاً توزيعاً جديداً لأوروبا، حيث تقاسم الإمبراطور فردينان الأول وملك إسبانيا فيليب الثاني إمبراطوريته، وتزامنت هذه القسمة مع انشقاق المسيحية الغربية.

كان انشقاق الغرب وانطوائه على نفسه بالنسبة إلى الفكر والأدب الأوروبيين خميرة العودة إلى الينابيع. لقد تم انتصار الأنسية وتعدد الجامعات، وتمت ولادة جماعة أدبية وثقافية حقيقية تتجاوز جميع الحدود (جمهورية الآداب)، مصحوبة بتفسير جديد للكتاب المقدس، وكان انطلاق المطبعة التي يسّرت انتشار الإصلاح.

الأنسية الإيطالية الأولى

في جميع المراكز الفكرية خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، خُصصت الآداب الدنيوية المقدسة بالإجلال. وبما أن إيطاليا اجتذبت عدداً كبيراً من المسافرين، وبفضل الإشعاع السياسي والكنسي لدولة الحبر الأعظم، أمكن للأنسيين أن يُصبحوا المربين لأوروبا بأسرها، ولقيت دروسهم الأنسية القبول في كل مكان. وما لبث الأدباء أن كونوا جماعة أدبية وثقافية حقيقية تجاوزت الدولة القومية. وكان أعضاء جمهورية الآداب هذه مُلزمين بتخطي الخصوصيات والفروق السياسية والطائفية، مستخدمين لغة واحدة هي اللاتينية، كما كانوا يرتبطون بصداقة ويقفون أنفسهم على إجلال الآداب والعلوم، مُفتخرين بدولتهم الحرة.

وكان التبادل والتواصل بالنسبة إلى مواطني جمهورية الآداب واجباً لا بدّ منه، بيد أن اللقاءات الشخصية بين الأنسيين لم تكن ممكنة إلا لمجموعة متميزة.

والأنسية تطورت أيضاً خارج المراكز الفكرية الأكثر شهرة في بولونيا وبوهيميا وهنغاريا ومن مدن الساحل الدلماني "كرواتيا"؛ حيث ألغى استعمال اللاتينية العقبات اللغوية.

أنسية النهضة

خلافاً للأنسية الإيطالية الأولى، تركت أنسية النهضة تأثيراً في اللغات المحلية وفي آداب مختلف بلدان أوروبا. ففي النصف الثاني من القرن الخامس عشر، أخذت اللغة الإيطالية تزاول من جديد خاضعةً في الوقت نفسه للتأثير المباشر للمؤلفين الكلاسيكيين، والأدب الإيطالي في هذه المرحلة تطور بفضل الأعمال الفنية لمؤلفين عرفوا جيداً الأدب اللاتيني الكلاسيكي، كما عرفوا أدب الإيطاليين الكبار أمثال بترارك وبوكاشيو.

وفي فرنسا تمت الحركة التي اتجهت إلى تشجيع اللغة القومية على مرحلتين أولها محاولات الأنسي كريستوف دي لونغي، والمرحلة الثانية في عهد فرنسوا الأول. وفي هولندا الجنوبية أسهمت جمعيات البلاغة في تكوين وتصفية لغة أدبية واحدة مستعملة في كل مكان. أما في إسبانيا فقد أغنى التأثير الأنسي للثقافة الكاتالانية بمعرفة المؤلفين الكلاسيكيين ومؤلفي النهضة الإيطالية "دانتي وبترارك وبوكاشيو"، لكن هذه الأنسية اتجهت نحو التشجيع المفرط للاتينية على حساب الكاتالانية كلغة ثقافية.

ولقد طبعت النصوص العظيمة بطابعها لغة بلادها، وتلك حال "رولاندو الهائج" لـ آريوست في إيطاليا، وترجمة "المزامير" لـ كليمان مارو و"غارغانتوا" لـ رابليه في فرنسا، و"سفينة المجانين" لـ سيباستيان برانت بالنسبة إلى المناطق الألمانية. ومنذئذٍ لم تعد اللغة الأم التي رفعت إلى مرتبة اللغة الأدبية غير جديرة بالتصدي للموضوعات الدينية.

القرن السادس عشر

من آداب هذه المرحلة الأدب الصوفي، ففي البرتغال وضع فري هيتور بنتو تبحره العلمي الواسع في خدمة ورعه في "صورة الحياة المسيحية". وفي إسبانيا رسم هذا الأدب البحث الداخلي للنفس المفعمة بالرغبة في الله، لكن الدين في إسبانيا وإن كان مصدراً للإبداع الأدبي، إلا أنه في مكان آخر كان ميداناً للمواجهات العسكرية والأدبية، حيث ساد في فرنسا أعظم العنف. وقد عكست مقالات رونسار الطابع السجالي بقوة في أدب تلك الفترة. ففي الأدب المناضل كتب رونسار مقالاته الأولى في العام 1560 قبل الحروب الدينية عندما كان الناس يأملون بالتفاهم إن لم يكن دينياً فعلى الأقل سياسياً بين الفريقين (الكاثوليكي والبروتستانتي)، وقد أقر معاصرو رونسار أنه أمير الشعراء، فقد كانت كتاباته السجالية رد على عمل تيودور دي بيز الشعري والدرامي، الذي كان يناضل في جنيف بفضل أطروحات كالفن، ولقد كان في تلك الفترة لكتابات رونسار تأثيرها المؤكد حتى بين البروتستانت.

ومن آداب تلك المرحلة أيضاً الأدب الهجائي الذي ازدهر في هولندا وألمانيا وهنغاريا، أيضاً الآداب القومية في كل من ألمانيا والدانمارك، وأدب التهدئة والمسرح التعليمي والكوميديا المرتجلة وغيرها.

في القرنين السابع عشر والثامن عشر

في القرن السابع عشر الأوروبي، جاءت ولادة الباروكية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحركة رد الفعل التي وسعها الكاثوليك ضمن الإصلاح البروتستانتي.

والباروكية حركة مطبوعة بطابع الحداثة، وهي غير متجانسة لا جغرافياً ولا زمانياً، بدأت في إيطاليا وتفتحت في إسبانيا وأوروبا الوسطى، ويسّر انتشارها آل هابسبورغ حيث كان هذا الانتشار متفاوت السرعة بحسب المناطق.

أما بداية القرن الثامن عشر فقد عرف بعصر الأنوار، وكان هذا العصر عظيماً بالنسبة إلى تطور مختلف الفنون، وفيه جرى تبادل الأفكار حول الجمال عبر أوروبا بأسرها، وعرفت الموسيقا ازدهاراً لم تعرفه من قبل، وتميزت المرحلة بالتوسع الخارق بالقصيدة المغناة والقصيدة والدراما الموسيقية، كما أن ميدان اللغة وفن الشعر كان في أوج انطلاقته، وهي حقبة تكاثرت فيها المعاجم والإسهامات في تاريخ اللغات الوطنية وقواعد فنها الشعري.

----

الكتاب: تاريخ الآداب الأوروبية

الكاتب: مجموعة من المؤلفين

ترجمة: صياح الجهيم

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب