يمارس الإنسان فعل التفلسف سعياً وراء تحقيق رغباته اللامتناهية. ومادام الإنسان يعرف بوصفه كائناً دائم الرغبة نظراً لطبيعته الفانية والمحدودة، فقد تولدت لديه الحاجة إلى الفلسفة نتيجة غياب موضوعات وتساؤلات معينة، فالتفلسف في نظر بعض الكتاب سبيل للحرية وبلوغ السعادة.

تساءل الكثيرون عن الدافع إلى ممارسة فعل التفلسف، ومعرفة السبب الذي يكمن وراء هذا الفعل، حيث يمتلك سؤال "لماذا نتفلسف؟" جذوراً عميقة في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني، وهو سؤال جوهري وأساسي وضارب بجذوره في تاريخ الإنسان الطويل، وتاريخ الفكر الفلسفي الكوني، وتم طرحه من قبل الفلاسفة والمفكرين منذ بداية الفلسفة، ورافقها في مختلف محطاتها الكبرى ويعاد طرحه بصيغ وأشكال مختلفة.

فعلى مدى الأزمنة اختلف الناس حول أهمية الفلسفة، ومع التقدم والتطور الهائل الذي نشهده في كل المجالات المحيطة، يبدو أن السؤال حول أهمية الفلسفة لا يزال مستمراً وقادراً على فرض نفسه.

فالتساؤل والتفكير الفلسفي مفيدان للفكر، يُشجِّعان فينا اقتناء مكان للحرية، بالابتعاد عن الظنون التي يحرِّكها المجتمع وأحكامنا المسبقة، حيث إن الممارسة الفلسفية التي نوهت إليها الكاتبة لورانس فانين هي عمل جماعي في اكتشاف الذات واكتشاف الحقيقة في التاريخ بالأدوات الاستفهامية والتعجبية الباحثة عن الأسباب والعلل والغاية المنشودة، فالفائدة التي تجنيها من الفلسفة ليست في النتائج بل في الوسائل؛ ليست في الغايات، بل في المبادئ، أي أنها تعلم الضبط الفكري للمفاهيم والانضباط الأخلاقي للذات، تعلم كيف يشتغل المرء على ذاته[1].

يبدو أن التفلسف يتواقت مع فعل التساؤل، حيث كان ميلاد الفلسفة يتميز بالفعل بالدهشة عند اليونان، ولم تكن دهشة ساذجة ومغفلة بل كانت دهشة حدسية تشجع على الفضول الفكري وعلى التأمل، كان الأمر يتعلق بالتساؤل حول الظواهر، والعمل على فهمها، كان الانشغال الفلسفي الأولي يريد معرفة الطبيعة ومختلف مبادئها وفهمها.

إن الحاجة إلى الفلسفة تتولد نتيجة غياب موضوعات معينة، بعبارة أخرى، يمارس الإنسان فعل التفلسف سعياً وراء تحقيق رغباته اللامتناهية، مادام الإنسان يعرف بوصفه كائناً دائم الرغبة، نظراً لطبيعته الفانية والمحدودة.

إن رغبة الإنسان في المعرفة هي التي قادته إلى التفلسف، ويمكن أن نقتبس من جان فرانسوا ليوتار عبارته القائلة "الفلسفة رغبة غير متناهية للوصول إلى الحكمة وإلى الآخر" حيث إن الإنسان يرغب في معرفة ذاته من يكون، وما المصير الذي سيلقاه بعد الموت، ورغبته أيضاً في معرفة العالم من حوله وباقي الأفراد الذين يتشاركون معه الوجود والمصير، وكذا الرغبة في معرفة الخالق الذي كان وراء وجود العالم وباقي الموجودات بما في ذلك الإنسان[2].

كما اعتبر الكاتب مصطفى كمال فرحات في كتابه "لماذا الفلسفة اليوم" أن "أسطورة بروميتي" من أهم النماذج المرجعية والأنماط المنبعية للمغامرة الأوديسية للغرب، وفيها صعد بروميتي إلى السماء الأولمبية واستحوذ على النار المقدسة، وهي سر من أسرار ألوهية الآلهة، ووضعها تحت تصرف الإنسان. هذه اللوحة وغيرها من فلسفات لاهوتية عبر التاريخ يستعرضها المؤلف في عناوين عديدة، يحضر فيها جلجامش وسبارتاكوس وأرغوس وبرج بابل ومنطق المجانسة والتشفيف وعناوين أخرى، ينشغل المؤلف بتشريحها وتفكيكها، والغاية إعادة البناء والتركيب، فهي قراءة توليدية تحويلية يمكن أن نتعاطى معها كحقل للسبر والاختبار، أو كمجال للاستيحاء الرمزي والاستثمار الفكري، في عالم راهنٍ، حيث تشابك المصائر والمصالح، وتعولم المشكلات والهويات والخيرات على الساحة الكونية[3].

وهكذا نرى إن الحاجة إلى الفلسفة كانت دائماً جراء تحقيق رغبات الإنسان اللامتناهية التي تكون نابعة من نقص يشكو منه أو من خلال واقع متأزم يفرض عليه ضرورة البحث عن السبل الكفيلة لتخطيه، فالفلسفة هي رغبة الإنسان في مد جسور التواصل البناء والهادف نظراً لاعتبارها أداة للحوار لنصل في النهاية إلى القول: "إننا نتفلسف لأننا نرغب بذلك".

----

المراجع

[1] لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، لورانس فانين، ترجمة محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، 2021.

[2] لماذا نتفلسف؟ فرانسوا ليوتار، 2018.

[3] لماذا الفلسفة اليوم؟ من ممكنات فعل التفلسف آخرياً، مصطفى كمال فرحات، 2018.