لا شك أن البحث عن شكل أفضل للعيش، هو هاجس كبير عند البشر، خاصة إذا كان الكثير منهم يعاني من مشكلات ذات طابع نفسي تنعكس على مقدراتهم في مواجهة الحياة وعيشها بشكل "سليم"، بل وتعطيلهم عن الحياة نفسها والذهاب بهم إلى منزلقات خطرة، في ظل هروب متواصل من اللجوء إلى الطبيب النفسي عند فئات واسعة، حتى في المجتمعات المتقدمة. من هنا ينهض هذا السؤال الإشكالي: هل تستطيع أن تكون محللاً نفسياً لنفسك وكيف؟

الباحث أندريه روبرتي يخوض في كتابه "كيف تحلل نفسك بنفسك" مغامرة شائكة لما ينطوي عليه هذا الجانب، العلمي والطبي، من محاذير قد تنقلب نتائجها عكس ما يسعى إليه الكتاب ومؤلفه الذي اعتمد أسلوباً سهلاً وشائقاً في تناوله لموضوعات كتابه.

ينطلق البحث من نقطة أساسية، تتفق عليها الكثير من آراء المحللين النفسيين، وهي أننا جميعاً مصابون بالعصاب إلى حد ما ولكن بنسب متفاوتة، ولذلك نحن بحاجة إلى التحليل النفسي. والعصاب ليس الجنون بل هو "طريقة للتصرف في مواجهة الحياة اليومية والهموم وخيبات الأمل والآلام التي تطبع حياتنا النفسية".

التحليل النفسي، بشكل من الأشكال، هو "تربية مستمرة لتحرير الطاقات التي يستهلكها الفرد خلال عصابه وتوجيهها نحو ما يرغب فيه فعلاً". وبذلك يقوم بكشف أسباب العصاب ويقوّم عيوبه. وربما يسأل البعض عن الإنسان الطبيعي من وجهة نظر علم النفس الذي يرى أنه "الفرد القادر على عيش حياته دون أن يجد نفسه منخرطاً في نزاعات لا تحتمل مع وسطه الاجتماعي والأسري".

وفي الوقت نفسه يشير الباحث إلى أن التحليل النفسي "من بين كل العلوم هو دون شك العلم الأكثر تعرضاً للانتقاد والازدراء، لكن من ينتقده يجهل، غالباً، هو من يحتاج أكثر من غيره إلى تحليل نفسي مؤهّل".

نعرف أن نفس الإنسان مركبة من ثلاثة مستويات: الأنا "الوعي"، والهو "اللاوعي"، والأنا الأعلى. واللاوعي "غامض معقد، قلما يكون من السهل تفكيك رموزه لكن يمكن لتفصيل صغير أحياناً أن يسمح لنا، في لحظة معينة، بالتغلغل داخل آليات عمله الأكثر سرية". والسؤال: ماذا نفعل كي نكتشف ما يمكن أن يزيل الحجاب عن لاوعينا".

زلة اللسان هي "فعل ناقص" وفق فرويد، وفي الواقع إن الأنا التي ترغب والهو الذي يرفض ينتجان معاً النسيان وزلة اللسان. وهذه الأخيرة تنتج ضد رغبة الفرد وتكشف عن دوافع لاواعية.

لكن الحالة الأكثر خطورة وجدلاً، على المستوى النفسي، ونعني الانتحار الذي يؤطره الباحث بتعريف ذي طبيعة اجتماعية ونفسية فهو: هروب من الواقع، هروب كامل واستئصالي يتطابق مع التدمير الذاتي. وهناك نوعان: مادي كالموت، ونفسي يتجلى عبر التخلي التدريجي عن كل شيء "الحب والعاطفة والعمل والطموحات والعائلة". وغالباً ما يكون سببه الخوف؟ مبيناً العديد من الخطوات المهمة على صعيد مواجهة الإنسان لخوفه.

ولعل موضوعة الحلم من أكثر القضايا الحاضرة على طاولة المجتمع الإنساني الذي يعيش الكثير من أفراده أنواعاً هائلة من الأحلام التي تحتل قيمة كبيرة جداً على مستوى التحليل النفسي بما تنطوي عليه من اندفاعات للاوعي تعكس الحالة النفسية للفرد. والحلم هو "التمثيل الرمزي لرغبة أو دافع" وهو "الحياة النفسية أثناء النوم". وللحلم وظيفتان: إشباع رغباتنا الأكثر سرية، وتحريرنا من روادعنا. وهو من جهة ثانية، مفيد جداً لأنه يخفف الطاقة العدوانية اللاواعية.

عندما يحلم إنسان بأنه ضرب أو مات أو أهين، فإن الأمر يتعلق برغبة في العقاب الذاتي الناتج عن شعور لاواع بالذنب الذي يشبع الرغبة، عبر النوم تحديداً، بأن يعاقب من أجل هفوة ارتكبها أو يعتقد أنه ارتكبها. والحلم يشبه ردة فعل على دوافع خارجية غريبة عنا كالوقوع في عاصفة ثلجية؛ حيث يشير إلى شعور بالبرد لأننا لم نتلحف جيداً أو أن الغرفة تعرضت لبرد أكبر.

هل نحن جميعاً عصابيون؟

يعاني البعض من تكرار عادات بعينها وتكون ظواهر نفسية لاواعية وهي "عصاب هوسي قهري"، والقهر يحد من استخدام الوقت وحرية التفكير والفعل والانتباه. والعصابي حالم يتصرف في مواجهة الصدمات بألا يفعل شيئاً، إنه يحلم في النجاح والمجد أكثر من الحلم بالانتقام، ويتسل بهذه الأفكار غي المفيدة، ويترك الفرص الحقيقية في الحياة تهرب منه. لا أحد يعرف أكثر منه كيف يضيع وقته؟! وهناك أنماط من العصاب: الوهن العصابي، عصاب القلق، العصاب أحادي الأعراض، الهستريا والوسواس. و"الجسد المقموع ينتقم عبر قمع الروح". وثمة تمظهرات تعبر عن عيوب العصابي: الحساسية المفرطة، الغضب، عدم الرضا، الارتياب، الأنانية، عدم التسامح.

ومن الأمراض التي توقف عندها الباحث "عقدة الدونية"، وهي شكل آخر من عقدة التفوق، أي أنها رفض للقتال والفوز ويمكن أن تنتج عن عيب جسدي. و"الرهاب" الذي يمثل خوفاً غير منطقي، وهو مرضي ولاعقلاني، وهناك رهاب بسيط "صدمة بالماضي"، ورهاب معقد لاخفاء صراع عاطفي حدث بطريقة لاواعية.

أما "التطير" فهو توجس لا عقلاني يتعلق بالتقاليد الشعبية كرؤية قطة سوداء تنبئ بالمصائب. والإشارة المهمة في هذا السياق تتعلق بالخوف "فإذا كان الخوف يولّد الحقد، فإن فقدان الأمان يولّد العدوانية".

الباحث في كتابه لا يسعى لإلغاء دور المحلل النفسي وأهميته، فهناك مشكلات معقدة لا يمكن الاستغناء عن المحلل لمواجهتها، بقدر ما يضع مجموعة من الخطوات والنصائح المدروسة نفسياً وعلمياً للامساك بمفاتيح التحليل الذاتي من قبل الفرد، شريطة الصدق في مواجهة مشكلاته، بغية ولوج بوابة حياة نفسية أفضل وأكثر أماناً.

----

الكتاب: كيف تحلل نفسك بنفسك

الكاتب: أندريه روبرتي

المترجم: د. غسان بديع السيد

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب