رواية "وحوش بلا وطن" تُثير قضية هامة في الحروب الأهلية، التي قلما نجا منها بلدٌ في هذا العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه خلال منعطفٍ ما من تاريخه.

تقول الأسطورة: عندما قام المقاتل العظيم وجيشه بمحاربة العدو في الأدغال بجوار القرية؛ حيث قاتلوا عدّة أيام ولم ينتصر خلالها أحد، قالوا: دعونا نتوقف، فتوقفوا وتناولوا غداءهم معاً. جلس العدو مع العدو، وابتهجوا حتى ناموا، وفي الليل هاجموا العدو المحارب، فأصابوه وهرب في الأدغال، وسقط في النهر، وكاد أن يموت. وخلال ذلك جاءت (آلهة النهر) لتساعده. وعندما رآها وقع في حبها وتزوجها، وأنجبت له طفلين توأمين، ولأنّ أمهما إلهة يُمكن أن يتغيرا من حيوانٍ إلى آخر. وصارا يتحولان إلى حيوانات مختلفة لأجل الاستكشاف والطعام، حتى تحولا مرةً إلى ثورٍ يردُ الماء، ونمرٍ يحبُّ الصيد. لكن وخلال رحلة الأخير للصيد على ضفة النهر شاهد ثوراً، فأنشب على حين غرة مخالبَه في عنقه، فيما غرز الأول قرنيه في بطنه. وما إن سالت دماءٌ كثيرة من الطرفين حتى عادا إلى كينونتهما البشرية، وتبيّن لهما أنهما التوأمان وليسا العدوين. وهكذا بقيا يبكيان وينزفان حتى ماتا على ضفة النهر.

ذلك ما يرويه (آغو) لنفسه، بعد كل عدوان وغزوة على قريةٍ، وسبي نسائها وقتل أطفالها في حربٍ عبثية بين الإخوة في بلدٍ أفريقي. (أغو)، الذي سيوكل إليه (أوزودينما أيويلا) –الكاتب الأمريكي ذي الأصل النيجيري- ليس مهمة السارد وحسب في روايته (وحوش بلا وطن)، بل وصاحب الشخصية الرئيسية في الرواية الذي كان شاهداً ومشاركاً في مختلف الأحداث التي يرويها.

تُثير رواية "وحوش بلا وطن" قضية هامة في الحروب الأهلية، التي قلما نجا منها بلدٌ في هذا العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه خلال منعطفٍ ما من تاريخه. وهذه القضية هي تجنيد الأطفال في هذه الحروب التي يكون فيها الجميعُ مهزومين حتى وإن تغلب طرفٌ على آخر، فلا معنى أن تنتصر على نفسك وتبقى تنزف حتى الموت. فـ "آغو" الذي سيروي لنا محنته في هذه الحرب في ذلك البلد الأفريقي الذي لن نعرف اسمه، ذلك أنّ كلّ الحروب الأهلية لها نفس السيناريوهات من الكارثة في كلِّ البلاد، كان يعيشُ آمناً في قريته في كنف أمه وأبيه ومع أخته الصغيرة إلى أن تقع الحرب – الكارثة بين جيش الحكومة ومتمردين عليها من عصابات مسلحة طامحة في السلطة والنهب. وعندما يأتي المسلحون إلى القرية حيث بدأوا بحرقها واغتصاب نسائها، يطلب منه أبوه أن يركض، فقط يهرب ويركض جيثما وجد اتجاهاً، وهكذا بقي آغو يركض ويركض إلى أن سقط مغشياً عليه من التعب والنعاس، ولم يستقيظ إلا بين يدي عصابة متمردة، وليكون بين خيارين، إما أن يُقتل أو يُجند مع العصابة المسلحة، وكان الخيار الأشدُّ من القتل هو التجنيد، حيث مارس عليه قائد المجموعة كل ما يخطر في البال من "شنائع"، ابتداءً من إجباره على قتل الخصوم من نساء وأطفال والنهب إلى اغتصابه هو نفسه من قبل قائد المجموعة.

هنا قليلاً الرواية ما تدخل في وصف الأحداث أو الأعمال التي تقوم بها المجموعة من تصفيات ونهب وحرق للقرى إلا من باب الدخول إلى جوانيات آغو لتكشف لنا الصراع الداخلي الرهيب الذي يُمزقه بعد كل حادثة أو فعلٍ شائن. ومن ثمّ يُمكن تصنيف الرواية بأنها رواية نفسية بالدرجة الأولى معنيةً بأثر هكذا حروب على نفسية طفل لم يصل سن المراهقة بعد، لكن دون إغفال الوصف كلعبة فنية وحاضنة لكل هذه الحيثيات السردية. لا سيما وأنّ مؤلف الرواية هو كاتبٌ وطبيب، بمعنى الكاتب القادر على الولوج في جوانيات ودواخل الشخصيات، والتي كنا نتعرف عليها من خلال وصف آغو ومن خلال مشاهداته حيناً، أو من خلال مشاركاته في الأحداث، وهو ينظر إلى تقلص أعضاء المجموعة المُحاربة فرداً بعد آخر بعد كلِّ "غزوةٍ"، أو صراعٍ ينشب بين أفراد العصابة نفسها. وهو في كلِّ مفاصل هذه الأحداث يبدو ككائنٍ هشٍّ بلا وزن يمشي هائماً كمن يمشي في نومه، يخفقُ قلبه كأن قريةٍ بكاملها تتحرك وتخبطُ على الأرض، يمشي ممزقاً وجائعاً طول الوقت في هذا الليل المُشبع بالظلام كعناق الأم. يرتكبُ أفعالاً أو ترتكب به أفعال تشعره بالعار والخوف دائماً: "عندما أرى كلَّ هذه الأشياء من قصف وقتل وموت، أقول في نفسي اليوم: بما أننا في هذه الأدغال، النملة فقط هي التي تتحرك وتعيش، أتمنى لو كنت نملة".

هذه الحالات النفسية الممزقة للروح والجسد، يُحيطها الكاتب بديكورٍ بيئي أشبه بالمعادل الجغرافي النفسي لما يعتمل وتشتعل أواره في الداخل، ويُضيف إلى ذلك إطاراً آخر من العقائد والميثولوجيا السائدة في هذه البلاد الوفيرة بكلِّ شيء، لكن دائماً ثمة من يجعل من هذه "الوفرة" قحطاً دائماً. "نظرتُ خلفي أسفل هذا التل إلى الأرض التي تمتدُّ كيلومترات عديدة، بدا كلُّ شيء أخضر، فهذا جنوب البلاد، ولدينا كثيرٌ من الأشجار، أشجارٌ ضخمة جداً ترويها مياهٌ كثيرة، أشاهدُ من قمة هذا التل الأعشابَ الطويلة على جانبي الطريق حيث تلتقي الأرض بالسماء، فلم أعرف أين ينتهي التل، أو يبدأ الجزء السفلي من الغيوم.. وأغو الذي كان ينظر إلى الجميع بعين المشاعر نفسها، قتلة ومقتولين، "أعداء" أم شركاء في المجموعة المقاتلة تماماً كما ينظر إلى أشجار بلاده الضخمة التي هي بحاجةٍ دائماً لآلهة توفر لها المياه لترويها: "إن تفكيري يُشبه الطريق، يطول ويطول حتى يوصلني إلى مكانٍ بعيد عن هذا المكان. أحياناً أفكّر في حياتي، وأمضي بعيداً في مستقبلي، وأحياناً أفكّر في كلِّ هذه الحياة التي تركتها ورائي، ثمّ أنظر إلى القائد وإلى "ستريكا"، أفكّر أيضاً، وأرى أنّ كليهما جميلٌ ومطمئن مثلما نظرتُ إليهما قبل الحرب، ومثلما ستكون بعد الحرب، لكن ليس كما هي اليوم، فاليوم نحن أشبه بالحيوانات".

----

الكتاب: وحوش بلا وطن

الكاتب: أوزودينما أيولا

ترجمة: محمد إبراهيم العبدالله

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2022