تبحَّر الكندي في جميع العلوم وأحاط بجميع المعارف، ففي "رسائل الكندي" دمج التراث الفلسفي اليوناني في الثقافة الإسلامية، فكانت بذلك الفلسفة هي النظرة الشاملة التي تربط بين جميع العلوم، وهو الذي سن للعرب سنة الاعتماد على العلوم ليتم التفلسف فيما بعد، لذلك عرف الكندي في الشرق والغرب بمؤسس الفلسفة الإسلامية وأطلق عليه اسم "فيلسوف العرب والإسلام".

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن الأشعث بن قيس الكندي، فهو أول فيلسوف عند المسلمين والعرب، ولذلك سمي بـ "فيلسوف العرب"؛ حيث إن المباحث الفلسفية كانت في القرنين الأول والثاني للهجرة على أيدي النصارى من السريان الذين كان معظمهم أطباء استعان بهم الخلفاء في العلاج، وحثوهم على نقل الطب والفلسفة، إلى أن شاركهم الكندي في النقل عن السريانية، فكان أول فيلسوف معترف عليه في التراث العربي، حيث عمل مع مجموعة من المترجمين الذين نقلوا إلى العربية أعمال أرسطو والأفلاطونيون الجدد وعلماء اليونان في العلوم والرياضيات. وترتكز العديد من رسائل الكندي نفسه بشكل كبير على تلك الترجمات، والتي يأتي من ضمنها النسخ العربية لأعمال أفلوطين وبروكلس كأثولوجيا أرسطو وكتاب الأسباب الشهيران والموجه إلى أفراد أسرة الخليفة، كان فكر الكندي ذاته مخضباً بالأفلاطونية الجديدة على الرغم من أن مرجعه الرئيسي على الأمور الفلسفية هو أرسطو.

كما تتضمن رسائل الكندي الفلسفية رسالة في الفلسفة الأولى التي يحاج فيها أن الكون ليس بأزلي وأن الرب واحد ببساطة، كما كتب أعمالاً عدة عن مواضيع فلسفية شتى، خاصة في علم النفس والكونيات، فضلاً على أن عمل الكندي في الرياضيات والعلوم متشعب، وعرف في التراث العربي واللاتيني بكتاباته عن علم الفلك.

يحث الجزء الأول من كتاب "رسائل الكندي الفلسفية" على تقدير الحكمة الفلسفية اليونانية، ويحوي الجزء الثاني على نقاش الكندي المحتفى به عن أزلية الكون، أما الثالث والرابع فيحقق وجود "الواحد الحق" أي الله، مصدر الوحدة في كل الأشياء الأخرى، واعتبار امتناع اللغة عن هذا الواحد الحق، كما يعد مخطوط إسطنبول أول رسالة في التراث العربي تمنح تصنيفاً لأنواع العقل، والتي ستغدو مألوفة في نصوص الفارابي وابن سينا وابن رشد. كما تسلط أعمالٌ أخرى الضوء على علم النفس للكندي (أي نظرية النفس)، كما ضم أيضاً استخدام الرياضيات والكونيات من خلال استخدام التركيبات الهندسية لشرح الظواهر مثل الإدراك البصري والظلال وانكسار الضوء والانعكاس والمرايا الحارقة ليثبت بأن الضوء والبصر يمكن تشكيله على أنه خطوط هندسية.

وكان الكندي أول من وجه الفلسفة الإسلامية وجهة التوفيق بينها وبين الدين، وله في ذلك موقفان: الأول لا يميز بينهما إذ كلاهما يطلب الحق، والثاني يجعل مرتبة الدين أسمى من الفلسفة، ولكن الدين يعتمد على الوحي، في حين تستند الفلسفة على المنطق، ولذلك لم يثق رجال الدين بالفلسفة والمشتغلين بها، واتهموا الفلاسفة بالكفر، وكان هدفه أن يوفق بين الدين والفلسفة لأمور ثلاثة: أولها أن علم الربوبية جزء من الفلسفة، والثاني أن حقائق الفلسفة وكلام الرسل متوافقان، والثالث أن البحث فيما جاء به الشرع واجب بالعقل.

وهكذا نرى أن الكندي هو الممهد للفلسفة الإسلامية طريقها الذي سلكته فيما بعد على يد خلفه العظيم الفارابي الذي سماه العرب بالمعلم الثاني. ولقد استطاع الكندي كأول فيلسوف مسلم أن ينتزع الفلسفة من أربابها وأن يخلق جيلاً من التلاميذ، ومن أشهر تلامذته ابن كرنيب، وأحمد بن الطيب السرخسي، وأبو زيد البلخي، وهؤلاء الثلاثة هم الجيل الثاني من الفلاسفة المسلمين.

----

الكتاب: رسائل الكندي الفلسفية

الكاتب: أبو يعقوب الكندي

الناشر: دار الفكر العربي، 1953