الحياة كما يراها شوبنهاور قابلة أن يعيشها الإنسان بمفرده، فالإنسان لا يحتاج ليعيش سوى ألا يموت، أي يحتاج فقط للطعام والشراب والكساء والصحة والمأوى، وما عدا ذلك مما يبذله الناس من جهد لأجله معظم مواردهم وأوقاتهم لا يحتاجون إليه ولا يضيف إليهم شيئاً في حياتهم.

يتناول كتاب "فن العيش الحكيم" لشوبنهاور الطرق التي يمكن من خلالها ترتيب الحياة للحصول على أعلى درجة من المتعة والنجاح، ويقدم إرشادات لتحقيق هذه الطريقة الكاملة والغنية من المعيشة، حيث ينصح الآخرين بأنه حتى الحياة المعيشية يجب أن تطمح دائماً إلى مستويات أعلى.

ويرى الكاتب بأن الحياة البشرية محكومة بثلاثة شروط لتحقق العيش الحكيم: الكينونة أي ما نحن إياه، وشخصية الإنسان بمعناها الشامل، وتشمل الصحة والقوة والجمال والمزاج والطبع والذكاء، و"الحيازة"؛ ما نملكه من أشياء. و"التمثلات"؛ ما نمثله في أعين الآخرين وموازينهم.

يؤكد الكاتب أن الحياة أساساً هي أن تكون أنت، وفي ذلك فإن حظوظ الناس في معايشة حياة الكينونة مفتوحة على الممكن ويتساوون فيها، لكنها غالباً تكون من نصيب الأغنياء بدواخلهم وليس بأموالهم. وكان سقراط وهو يتأمل السلع الغالية المعروضة للبيع يقول كم من حاجة لست بحاجة إليها. ذلك أن الشرط الأول والجوهري لسعادتنا هو ما نحن إياه، هو طبعنا أولاً وأخيراً، فالإنسان ابتداءً هو جوهره الذي لا تضيف إليه الأشياء الخارجية شيئاً، حيث إن تسعة أعشار السعادة كما يقول شوبنهاور هي الصحة، والسعادة في مجملها أو مجموعها هي ما نملكه من نعم ذاتية، الطبع النبيل، والعقل الراجح، والمزاج الرائق، والنفس المرحة، والجسم السليم، ويجب أن نصون هذه النعم وننميها بدل اللهاث وراء النعم الخارجية ومظاهر الشرف والأبهة. والعدوان اللدودان لسعادة الناس هما الألم والملل، ولا علاج للبؤس إلا الثراء الداخلي، ثراء العقل والروح، وكما تكون الدول المكتفية هي الأكثر سعادة، فإن الفرد كذلك أيضاً.

ويؤكد الكاتب شوبنهاور في كتابه بأن المرء لا يكون مطابقاً لذاته إلا إذا كان بمفرده، لذلك فالكاره للعزلة كاره للحرية، إذ لا نكون أحراراً إلا في عزلتنا، فكل اختلاط بالناس يلازمه الإكراه لزوم الظل لصاحبه، ويفرض على المخالط تقديم تضحيات وتنازلات باهظة بمقاييس الميالين بطبعهم إلى الانفراد والعزلة، والمشمئزين من العزلة أو بتحملها بل الهيام بها، فالبائس يستشعر بؤسه، وبكل جوارحه، في عزلته التي لا يطيقها جراء ذلك، كما يستشعر الراقي عظمته وسموه بكل جوارجه أيضاً في وحدته. فالعزلة هي الميزان الذى تقاس به جودة الأشخاص من عدمها، فبقدر ميل الشخص إليها وعشقه لها، يكون أهلاً لأخذ مكانه في مجمع الراقين وصفوة المنتجين، وإنها لمتعة لا تضاهيها متعة أن يجمع الشخص بين العزلة الجسدية والعزلة الفكرية المتناغمين أشد تناغم، وإن تعذر على هذه الطينة من الناس تحقيق هذا المطلب، فإنك تجدهم منزعجين بالغ الانزعاج لأن الظروف القاهرة أجبرتهم على معاشرة أناس متبايني الطباع والميول والمقاصد.

عاش شوبنهاور رغم تقدمه في العلم والفلسفة معظم حياته وحيداً بلا أسرة ولا أصدقاء، وكان يرى في الفردية انسجاماً مع الذات، وهو فيلسوف معروف بفلسفته التشاؤمية، فما يراه بالحياة ما هو إلا شر مطلق.

----

الكتاب: فن العيش الحكيم، تأملات فى الحياة والناس

الكاتب: أرتور شوبنهاور

ترجمة: عبد الله زارو

الناشر: منشورات ضفاف