حمص من المراكز التي دفع حُسن موقعها القدماء إلى اختيارها، فهي تأخذ موقع القلب في القطر العربي السوري، وتضم مدناً ومراكز حضارية، وتنتشر فيها المدن والقرى من كل جهاتها متصلة فيما بينها بطرق متقاربة، وقد ارتبطت بنهر العاصي وواديه وبحيرته قطينة "قادش"، كما حظيت بموقع يسهل ورود هواء البحر إليها، فيلطف جوها ويجعله عاصفاً أحياناً.

لا أحد يعرف حتى الآن متى بدأ بنيان مدينة حمص، لكن الدراسات والحفريات الأثرية دلت على أن تل حمص قد سُكن منذ الألف الثالث ق.م، وهو معاصر لمملكة المشرفة "قطنة" ولمنطقة قادش، وتُثبت أيضاً أن حمص كانت حاضرة زمن الصراع المصري الحثي في قادش، ويقال إن أول من سكنها الروثان من أحفاد سام بن نوح وتلاهم العمالقة، لكن الثابت أن أصول سكانها من العموريين والكنعانيين والآراميين من العرب القدماء الذين امتزجوا مع أصول عربية لاحقة.

ولا شك أن شعوباً أخرى من غير المنطقة قد غزت البلاد مثل الحثيين والمكدونيين والرومان، وقد دلت التنقيبات الأثرية على وجود سكن هلنستي في تل النبي مندو في الرستن، لكن من الواضح أن أهمية حمص اتضحت زمن أسرة شميسغرام العربية التي كان لها سلطة واسعة، ويبدو أنها قامت بإصلاحات عمرانية في حمص من ناحية توسيع هؤلاء للمدينة القديمة.

وعندما دخلت الشام في حوزة الرومان بقي لحمص استقلالها الذاتي وحقها في صك النقود، واستمر كذلك تأثيرها في زمن الإمبراطور أبلوكابال، كما بلغت ذروة مجدها في عهد سبتيموس سيفيريوس إمبراطور روما، وبهذا غدت حمص مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً.

ومنذ أوائل القرن الثالث الميلادي حالف الحظ مملكة تدمر بقيادة ملكها أذينة الثاني، لكن تدمر بدأت تظهر بزي جديد عندما وصلت زنوبيا إلى حكمها، والتي استطاعت أن تؤسس إمبراطورية كبيرة منافسة للإمبراطورية الرومانية، مما أقلق الرومان الذين تغلبوا على جيوش زنوبيا في عدة معارك، إلى أن تمكن أورليان من أسر زنوبيا وهزيمتها. ثم انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، وقُسمت سورية إلى مناطق منها منطقة فينيقية الثانية ومركزها حمص، لكن بين عامي 447 و 528 م، حدثت زلازل متتابعة دمرت الكثير من مباني المدن ومنها حمص.

وما بين عامي 529 و 569 م، عين الحارث بن جبلة الغساني سيداً على القبائل العربية في المنطقة، وفي عام 540 م احتل الفرس شمال سورية، واستطاع هرقل استعادتها حيث اتخذ من حمص قاعدة لتنقلات جيشه أثناء حروبه قبيل العصر الإسلامي.

فتح حمص

في البداية كان لجيش المسلمين تحركات استطلاعية حققت انتصارات كثيرة لهم، وكشفت عن أحوال تلك الحواضر، فكان حصار حمص الأول بمثابة استيلاء عليها وعلى حواضرها، ثم تم الانسحاب لما تتطلبه الظروف العسكرية.

وبعد معركة اليرموك 636 م، سار أبو عبيدة بن الجراح قاصداً حمص، وقد بعث حملة استطلاعية قبل أن يصلها بقيادة خالد بن الوليد، ثم لحق به على أثر هروب هرقل من دمشق نحو حمص عن طريق قارة، حيث شجع هرقل أمير حمص على التحصن، وبيّن له نقطة ضعف المسلمين، ويبدو أن هرقل كان يستعين بالعوامل الطبيعية في القتال، إذ أوعز لقادته بقتال المسلمين شتاءً، غير أن المسلمين ثبتوا وصبروا، وبعد مرور الشتاء كان موقف أهل حمص متذبذباً تجاه المسلمين، لكنهم طلبوا الصلح، فأجابهم المسلمون وقبلوا، وهكذا أصبح الصلح أمراً واقعاً، وتطلب استقرار المسلمين في حمص، لذلك كان من أبرز شروطه تأمين المسكن لهم.

وفي سنة 638 م، جاء الروم لقتال أبي عبيدة في حمص، فأعد لهم خطة عسكرية انتهت بالنصر. وبعد أن صالح أبو عبيدة أهل حمص، تابع في فتح حواضرها، واستخلف عليها عبادة بن الصادق الأنصاري.

بعد الفتح

من الناحية الإدارية كانت حمص الأكثر اتساعاً والأكبر مساحةً بين أجناد الشام عند الفتح الإسلامي لها، ووفقاً لإحصائية خرداذبة فقد بلغ مجموع حواضرها قبل فصلها عن قنسرين أربع وأربعين حاضرة، ومن حواضرها الشمالية "الرستن وحماه ولطمين وصوران وشيزر وكفر طاب ومعرة النعمان وتل منس والبارة"، أما الحواضر الجنوبية منها "قدس وجوسيه وقارة"، ومن الحواضر الشرقية "تدمر ورفينة وأرك والقريتين وجدر وسلمية والقسطل"، ومن حواضرها الغربية "أنطرطوس ومرقية وبُلنياس وجبلة واللاذقية وأفاميا".

أما اقتصادياً وما إن توطدت دعائم الإسلام في حمص ودخل عدد كبير من سكانها الإسلام وامتزجوا بالمسلمين، لم يكن هذا الامتزاج اجتماعياً فقط، بل تعداه إلى الأمور الاقتصادية كالزراعة والصناعة والتجارة، حيث شهدت حمص إبان العهد الأموي نشاطاً زراعياً واسعاً، كذلك توسعاً بالثروة الحيوانية لما لتربية الحيوان من أهمية من الناحية الغذائية وصناعة المنسوجات والصناعات الجلدية، وصناعة روثها كوقود للتدفئة، كذلك دورها في الحروب والفتوح كوسائل للنقل.

وعلى الرغم من أن الزراعة في حمص تعود إلى أزمان غابرة، فقد أصبحت إلى جانب ذلك مركزاً صناعياً هاماً لموقعها وسهولة مواصلاتها وتوفر مائها والمواد الأولية فيها، أيضاً اشتهرت بكونها مدينة تجارية من الطراز الأول بسبب ثراء أهلها ورغد العيش الذي هم فيه. هذا كله إلى جانب تنوع مجالات الحياة الفكرية في حمص بما يخص العلوم الدينية والعلوم الطبيعية والشعر.

----

الكتاب: حمص منذ الفتح العربي الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي

الكاتب: مهند نايف مصطفى الدعجة

الناشر: دار رسلان