فيما يخص هذه الرواية التي بين إيدينا؛ أشير إلى أمرين الأول: وهي أنها تُرجمت في مرة سابقة باسم (جسور مقاطعة ماديسون)، كما أنها نُشرت أيضاً باسم (الحب بالأبيض والأسود) سنة 1992، وحينها تصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً خلال القرن العشرين، حيث بيعت منها ستون مليون نسخة حول العالم.

الأمر الثاني: أن الرواية ألهمت المخرج والممثل كلينت إيستوود سنة 1995 لتجسيدها فيلماً باسم (The Bridges of Madison County) إنتاج سنة 1995، ومن بطولة: ميريل ستريب، وكلينت إيستوود نفسه كشخصية مختلفة عن كل ما قدمه من أفلام (الويستيرن). كما جُسدت الرواية كمسرحية موسيقية سنة 2013.

والآن؛ هل يُمكن أن نقرأ رواية من (164) صفحة على أنها قصيدة مُفعمة بالوصف والرومانسية العالية؟! وفي الجواب نعم يُمكن إذا ما كانت الرواية على شاكلة رواية (جسور ماديسون كاونتي)، ولمؤلف من وزن الأمريكي روبرت جيمس والير، وبترجمة عذبة للمترجم الدكتور جميل ضاهر. والمدهش في هذه الترجمة الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، أنها الأولى وهو الكتاب الأول لهذا المترجم، وهو الأمر الباعث للغبطة والسرور، التي تشي بأنّ سلالة المُترجمين الرائعين في سورية لن تنقطع.

وإذا كانت رواية (جسور ماديسون كاونتي) يُمكن قراءتها كقصيدة نثر عالية الرقة والعذوبة، غير أن السؤال الآخر: هل تكفي أربعة أيام من الحب الهادئ الذي جرت مياهه كساقيةِ ماءٍ في سهلٍ، وليس "كجلمودِ صخرٍ حطه السيلُ من علٍ"، كافية لعاشقين ناضجين، لأن يعيشا على زوادةِ الحبِّ هذه أيام العمرَ كله؟! بل هل يكفي حدثٌ عاطفي عابر استمرَ لأربعة أيام لأن يُسردَ في روايةٍ رومانسية كجوري الحديقة؟!

وفي الإجابة على ما سبق؛ هو الرواية ذاتها "جسور ماديسون كاونتي" التي تمسك بتلابيك، ولن تدعك حتى تقلب صفحتها الأخيرة. وتجعلك تسأل بدورك: ماذا لو لم يلتقِ صدفةً كلٌ من "روبرت كنكيد" الكاتب والمصوّر لدى مجلة ناشيونال جيوغرافيك، وامرأة من أصلٍ إيطالي متزوجة من مزارع أمريكي تدعى "فرنشيسكا جونسون"، وتسكن في إقليم (ماديسون) في ولاية (آيوا).

يبدأ الروائي روربرت جيمس والير (1939 – 2017) "جسور ماديسون كاونتي" بطريقةٍ غير تقليدية، وإن كان هناك من الروائيين من لجأ إليها غير مر،. فهو منذ البداية يوحي إلى قارئه، أنّ الروايةَ تقومُ على قصةٍ حقيقية – وربما هي كذلك -، لكن من دون أنْ يقولَ ذلكَ مباشرةً، بل وربما هي راوية من نوع (السيرة الذاتية). ومن هنا ربما نفهم، أو نُفسّر سبب إطلاق الكاتب اسمه (روبرت)، على اسم شخصية العاشق في الرواية. كما أنه – الروائي- الذي تماهى كثيراً مع الرواي والسارد في منعطفات كثيرة في سرد الرواية، فهو يُشير – مثلاً – إلى أن كتابة هذه الرواية تمّت بمساعدة كلٍّ من "مايكل وكارولين جونسون"، ابنا فرنشيسكا وريتشارد جونسون، بعد أن قرأ الولدان وصية والدتهما، والتي سردت خلالها قصة حبها القصير الذي عاشت عليه طوال عمرها. إضافةً إلى استناده على محتويات دفتر يوميات فرانشيسكا، ومجموعة أخرى من الأغراض الحميمة لروبرت التي تحتفظ بها فرانشيسكا كذهبٍ عتيق، هي بعضُ أشياءٍ من وجهة نظر حبيها ثمينة للغاية إلى درجة أنها كانت جزءاً ومن مكملات حياته. والروائي كذلك لا ينسى خلال تأكيده على الرواية (السيرية)، أن يؤرخ الأحداث؛ فهو على سبيل المثال يذكر: "في وقتٍ مُبكرٍ من صباح الاثنين الموافق 16 آب سنة 1965، سار روبرت على الطريق العام (يو أس 65) عبر مدينة (دي موين) متحولاً إلى طريق (آيوا 92) غرباً، مُتجهاً إلى أقليم (ماديسون) والجسور المسقوفة. وهي المهمة التي كانت سبب مصادفة العلاقة العاطفية من خلالها، وهو بذلك، وإضافةً إلى إضفاء الطابع "السيري"، يُحدد أزمنة الأحداث في الرواية، وكذلك الأمكنة، وهو ما يوفر للقارئ التعرف على ذهنية المجتمع الأمريكي خلال تلك الفترة، حيث تأتي كخلفيةٍ لأحداث الرواية، تماماً كأمداءٍ لونية تُشكّل خلفيةً لتكويناتِ لوحةٍ تشكيلية.

غواية الرواية، أو لعبتها الفنية تقوم بالدرجة الأولى على الوصف، الوصف الذي يُشكّلُ الغاية الإبداعية في هذه الرواية، وهي القائمة على حدثٍ بسيط ربما يحدثُ مُشابهات له بالمئات في مناطقَ كثيرة وعديدة من هذا العالم. وهذا ما يُطلق عليه بـ "تحدي البساطة" ذلك الأشياء المعقدة سهلة الإنجاز، أما البساطة ففيها من الأمور ما يُثير التحدي. وهنا يُمكن أن نقرأ نوعين من الوصف، وهو بنوعيه ساحرٌ للغاية، وربما يُشكّلُ انعكاساً لمهنة روبرت كنكيد في مهنة التصوير التي كانت كلَّ حياته، وذلك بالتركيز على هذه اللغة المشهدية التي تأتي كمن يكتبُ بعدسة كاميرا، وليس بقلم.

أقول هنا يُمكنُ أنْ نقرأ مستويين من الوصف، وصفُ كلٍّ من روبرت لفرنشيسكا، ووصف الأخيرة لروبرت مع كل الحالة "الزمكانية" المحيطة من حولهما؛ حيث يأتي الوصف هنا لتفسير سرِّ جاذبية كلُّ منهما للآخر، وكأنّ كلاً من روبرت وفرنشيسكا كان كل منهما ينتظرُ الآخر منذ دهرٍ من السنين. وصفٌ سيطولُ السرد فيه دون أنْ يُشعرَكَ بالتطويل، أو بالإفراط رغم كلّ الإفراط في الأمر، غير أنّ اللغة الساحرة، والتي كما ذكرنا لغةٌ مشهدية وبصرية من النوع الفاخر لم تُشعر القارئ بأيّ فائضٍ في التفاصيل السردية رغم كثرتها.

في المستوى الثاني، ورغم الاستمرار في الحالة المشهدية، وهي التي تأتي بعد الفراق، هنا حيث يأتي السرد كزوادةِ حبٍّ يستمدُّ من تلك العلاقة العاطفية بين رجل تجاوز منتصف خمسيناته، وامرأة تجاوزت أربعيناتها بقليل. وإذا كان المستوى الأول من هذه اللغة المشهدية جاء بما يُشبه "التبرير"، أو لمعرفة كنه هذه الجاذبية بين العاشقين، فإنَّ المستوى الثاني من هذه اللعبة اللغوية، يقومُ بمهمةِ "التفسير": كيف استطاع العاشقان أنْ يُكملا ما بقي لهما من سني العمر، ويعتاشان على حبٍّ لايزال يتأجج ويشع رغم المسافات بين العاشقين، الذي ولد جراء علاقةٍ عاطفية لم تُعمّر سوى أربعة أيام كحضورٍ جسدي. حبٌّ لم يكن جارفاً كما أسلفت، بقدرِ ما كان هادئاً، وهو الأمر الذي جعله يتغلغل في مسام الروح قبل الجسد، تماماً كما يتغلغل زيتٌ مُقدس من يدِ كاهنٍ في مسام جسدٍ لمريد. هنا "الكلمات لا تحملُ معنى فحسب، بل إحساساً ماديّاً" فهذا الـ (روبرت) – والذي كما كانت والدته تصفه- يعيشُ في عالمٍ من صنعِ نفسه، عالمٍ أقرب منه إلى المجاز.

وروبرت الذي امتهنَ التصوير والكتابة من دون أن يسعى إلى ذلك، ولكن كأن الأمر جاء كلونِ عينيه، أو لون شعره الرمادي؛ كان يُدركُ أنَّ الضوء هو ما يُصَوَّرُ، وليس الأشياء. بل إنّ الأخيرة كانت فقط الأدوات التي تعكسُ الضوء. ومن هنا عندما يكون الضوء جيداً ومناسباً، ستجد دائماً شيئاً لتصويره. وهكذا كان الحبُّ لدى روبرت يُشبه التصوير، فالعلاقة العاطفية المُضاءة، هي انعكاس لروح العاشقين.

إذاً: يُكلفُ روبرت كنكيد، وهو الذي يُقيم في مدينة (بلنغهام) في مهمة تصوير جسور "كاونتي" السبعة في (ماديسون) من قبل المجلة الذائعة الشهرة (ناشيونال جيوغرافيك)، ولأنه في مهماته التصويرية اعتاد أن يتبع القاعدة الذهبية التي أمست من فلسفاته في البحث عن الأماكن الغريبة، فبناءً على التجربة: "اسأل ثلاث مرات"! وستكتشف بأنَّ ثلاث إجابات، حتى لو كانت كلها خاطئة، ستقودك تدريجيّاً إلى المكان المنشود. غير أنه في إقليم (ماديسون كاونتي)، لم يحتج، سوى أن يسأل فرانشيسكا جونسون سؤالاً واحداً، وكان الجواب أنها لم تدله على الجسر السابع المجهول بالنسبة إلى الضيف الزائر، وذلك من الجسور السبعة المسقوفة في ماديسون؛ وإنما أشارت لقلبين كانا مُتحجرين لوقتٍ طويل، وقد حانت لحظة نبضهما معاً؛ حيث أصبح من الواضح أنَّ كلّاً منهما كان يسيرُ باتجاه الآخر لزمنٍ طويل، رغم عدم علم أي منهما بوجود الآخر قبل ذلك اللقاء. تماماً كاحتمالٍ عالٍ لغيرِ المُحتمل، هو كان رشيقاً رغم سنينه الخمسينية في سهولٍ ناعسة تكادُ فيها الحياة أن تتوقف، وهي أصبحت للتو جميلة كما لم تكن يوماً. هنا في هذه اللحظة (الزمكانية)، كان صباحٌ دافئ يتحقق لرجلٍ معه شاحنة خضراء من بلنغهام من ولاية واشنطن، يقوم بصناعة الصور، وليس التقاطها وحسب، وامرأة لديها الكثير من الأحلام الجميلة، وتعيش حياة مملة بانتظار أمرٍ يهز الروح. وكان على الأثنين أنْ يشربا نخب الجسور السبعة المسقوفة في ماديسون. هنا حيث كلّ ما حول المرأة يحتفلُ بالغريب من الشمس الساطعة كقرصٍ أحمرَ كبيرٍ يستلقي فوقَ حقول الذرة إلى رائحة حبٍّ ناضج يُطبخُ على نارٍ هادئة، وله رائحة هادئة تماماً كما الشوربة والطبخات الأخرى التي لها رائحة هادئة لكائنين نباتيين. إنها رائحة النضج في كلِّ شيءٍ، الرائحة التي لا عنف فيها ولا قسر إذا ما استثنينا قلع بعض النباتات والخضار التي كانا يقلعانها من الأرض بجوار المنزل.

رواية (جسور ماديسون كاونتي)؛ تقول للمتلقي إنه يُمكن لأي موضوع قصة، أن يُشكّل رواية، بل رواية ساحرة، إذا ما توفر روائياً يُجيدُ المجاز بمخيال شاعر، وهو قادرٌ أن يدخل إلى جوانيات الشخصيات، ليفك عقد ألسنتها، ويطلقها تحكي مشاعرها، حتى وإن كان من معطياتِ حدثٍ حصلَ صدفةً بين رجلٍ عابر يسأل عن مكانٍ تاه عنه. حدثٌ يُمكن له أنْ يُشعلَ الشغفَ بين كائنين هما في استعدادٍ تام، أو قل كلّ ظروفهما تضعهما في مهبِّ الحب، وكأن أهل الحبِّ يشبهون تلك الطيور التي "تقعُ على بعضها". لكن وككلّ الأمور الجميلة التي تأبى أن تكتمل، حيث لا يُمكن لـ (اللقمة) أنْ تدخلَ الفم رغم وصولها إليه، فهو أي (روبرت كينكد) سيبقى رجل الطريق، بل هو الطريق نفسه، وربما هو لا يعدو أن يكون أكثر من حقائب سفرٍ قديمة، وشاحنة خضراء يطلقُ عليها اسم (هاري)، وهي امرأة متزوجة ولديها ولدان، وتعيش حياةً رتيبةً ومملة، وفي كونٍ غامضٍ كهذا لا بدّ أن يحدث ما جرى بين العاشقين حتى ولو تمّ الأمر لمرةٍ واحدةٍ فقط، ولن يتكرر مهما تعددت الحيوات. لكنها المرة الواحدة التي تُعادل عمراً كاملاً، هذه المرة الواحدة التي لو لم تحصل – وهنا المفارقة – لانهار كلَّ شيءٍ في حياة العاشقين.

تقول فرنشيسكا في وصيتها لابنيها: "لولا وجود روبرت في حياتي، لما بقيت كل هذه السنين في المزرعة"، وتُضيف: "أريدُ منكما أن تعدّوه واحداً من عائلتنا رغم الصعوبة التي تبدو لكما للوهلةِ الأولى. فأنا على الأقل كانت لي عائلة، وحياة مع آخرين، فيما روبرت كان وحيداً، وهذا ليس مُنصفاً". فيما روبرت، فقد ذكر بعض معارفه أنه أمضى أيامه الأخيرة في تحويل الموسيقا إلى صور. فمنذ أن كان الفراق، فقد توقف العاشقان عن أن يكونان كائنين منفصلين، بل أصبحا كائناً ثالثاً مكوناً من كليهما، ولم ينفصل أحدهما عن هذا الكائن، وهذا الكائن تُرك ليطوفَ وحده.

----

الكتاب: جسور ماديسون كاونتي

الكاتب: روبرت جيمس والير

ترجمة: الدكتور جميل ضاهر

الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2023