لا يزال أفلاطون يدهشنا إلى اليوم أكثر من أي فيلسوف آخر، باستثناء نيتشه الذي حاول أن ينتج شيئاً مختلفاً، أن يحدث انقلاباً في كل شيء "من اللغة إلى الشعر، ومن الفن إلى الفلسفة، ومن الدين إلى الأخلاق، وتصادم مع كل ثوابت عصره، فهدم منها الكثير، وقلب منها الكثير".

كان نيتشه أكبر مفكر نقدي وتفكيكي في تاريخ البشرية. إنه يمارس الفلسفة في أرض محروقة. إنه أكبر انقلاب في تاريخ الفلسفة، انقلاب يمحو كل ما سبق ويكتسح في طريقه كل شيء. من هنا لاعقانيته الهائجة أو راديكاليته الخطرة والمدمرة. ولكن من هنا أيضاً الطابع التحريري الهائل لفلسفته أو لمنهجيته الجينالوجية التي تذهب إلى أعماق الأشياء ولا تتوقف في منتصف الطريق كما يفعل بعض المفكرين.

يقول نيتشه: "الفلسفة كما فهمتها دائماً وعشتها، تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم. إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تقترب من نفسك وتطرح أسئلة عن ذاتك ويقينياتك الحميمة. إنها تعني البحث عن كل ما حُذف من قبل الأخلاق التقليدية. لقد اكتسبت تجربة طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرمة، من خلال توغلي في الأعماق والأقاصي؛ هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط".

في مجالي الفلسفة والأدب، يعد نيتشه ملهماً للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة. روج لأفكار توهم كثيرون أنها مع التيار اللاعقلاني في العدمية. ويعد أول من درس الأخلاق دراسة تاريخية مفصلة. قدم تصوراً مهماً عن تشكل الوعي والضمير، فضلاً عن إشكالية الموت. كان رافضاً للتمييز العنصري، ولكنه أيضاً رفض المساواة بشكلها الاشتراكي أو الليبرالي بصورة عامة.

في كتابه "هذا هو الإنسان"، يلقي نيتشه نظرة إلى الوراء، على مساره السابق، لكي يقيم أعماله ومنجزاته. وقد كتب هذا الكتاب قبل أن يصاب بالجنون ببضعة أشهر فقط، ولم ينشر إلا بعد موته بثماني سنوات، اي في عام 1908.

في هذا الكتاب يعظم نيتشه من شأن نفسه إلى أقصى الحدود. ويقول مجدي كامل عن هذا الكتاب: "عندما قرأت هذا الكتاب لأول مرة قبل بضع سنوات، وكنت مستلقياً على السرير، كدت أقوم وأقعد من شدة الفرح والاستمتاع، أو من شدة الضحك والهيجان، أو من الاثنين معاً. لقد هزني هزاً، لأنني لم أر في حياتي أسلوباً بمثل هذه الروعة والقوة. لست بحاجة إلى أن تلجأ إلى المتنبي أو بودلير، أو رامبو، لكي تشبع نفسك بالشحن الشعرية إذا كنت متعوداً عليها منذ الصغر. هو كاتب تراجيدي، ولكنه قادر على السخرية من نفسه ومن البشرية بأسرها".

ورغم أن نيتشه هو الفيلسوف الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة، إلا أنه لم يشتهر في حياته ولم يسمع به أحد تقريباً، مع أن كتّاب الدرجة الثانية والثالثة كانوا معروفين ويحظون بالأبهة والعظمة، فيما هو مغمور تماماً. وهو يقول عن نفسه: "لم يسمع بي أحد، ولم يرني! أنا أعيش فقط على الرصيد الذي أوليه لنفسي، على إيماني بذاتي. وربما كان وجودي ذاته عبارة عن وهم. أنا شخص غير موجود على الإطلاق. يكفي أن أتحدث مع أي "مثقف" ألماني يجيء إلى سويسرا حيث أقيم، لكي أتأكد من أنني غير موجود أبداً. لا أحد يسمع بي. لا أحد يعرف من هو فريدريك نيتشه".

والآن، هو أكثر وجوداً من كل الفلاسفة على الأرض، ولا يمكن لأحد يقرأ الفلسفة، أن يتجاهل ما كتبه نيتشه، أو أن يتجاهل تأثيره في الفلسفة وفي الأدب والأخلاق.

----

الكتاب: فريدريك نيتشه شيطان الفلسفة الأكبر

الكاتب: مجدي كامل

الناشر: دار الكتاب العربي، دمشق- القاهرة

الكاتب: مجدي كامل

الناشر: دار الكتاب العربي، دمشق-القاهرة، 2011